كاظم الموسوي:
.. وكل مواده الثماني والعشرين، أعطت للدولة المنتدبة كل شروط الاحتلال والاستعمار لفلسطين، وما خطط له وما قامت به الدولة المنتدبة عمليا. ففي المادة الأولى، قدم السلطة التامة في التشريع والإدارة باستثناء ما يكون قد قيد في نصوص هذا الصك. وفي المادة الثانية: تكون الدولة المنتدبة مسؤولة عن وضع البلاد في أحوال سياسية وإدارية واقتصادية تضمن إنشاء الوطن القومي اليهودي وفقا لما جاء بيانه في ديباجة هذا الصك وترقية مؤسسات الحكم الذاتي، وتكون مسؤولة أيضا عن صيانة الحقوق المدنية والدينية لجميع سكان فلسطين بقطع النظر عن الجنس والدين.
أما في المادة الرابعة، فقد كشف مغزاها ما تم تنفيذه واعترافه بوكالة يهودية ملائمة كهيئة عمومية لإسداء المشورة إلى إدارة فلسطين والتعاون معها في الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، وغير ذلك من الأمور التي قد تؤثر في إنشاء الوطن القومي اليهودي ومصالح السكان اليهود في فلسطين، ولتساعد وتشترك في ترقية البلاد، على أن يكون ذلك خاضعا دوما لمراقبة الإدارة.
وفي هذا الاعتراف، بالوكالة الصهيونية كوكالة ملائمة، أسست الدولة المنتدبة قاعدة الكيان الصهيوني.. وترى، حسب النص، أن تأليفها ودستورها يجعلانها صالحة ولائقة لهذا الغرض، الذي يوفر ما يلزم من التدابير بعد استشارة حكومة صاحب الجلالة البريطانية للحصول على معونة جميع اليهود الذين يبغون المساعدة في إنشاء الوطن اليهودي.
وكل ما جاء في المواد الأخرى كشف الهدف الرئيسي من صك الانتداب، فمثلا جاء في المادة السادسة: على إدارة فلسطين ـ مع ضمان عدم إلحاق الضرر بحقوق ووضع فئات الأهالي الأخرى ـ أن تسهل هجرة اليهود في أحوال ملائمة، وأن تشجع بالتعاون مع الوكالة اليهودية المشار إليها في المادة الرابعة حشد اليهود في الأراضي الأميرية والأراضي الموات غير المطلوبة للمقاصد العمومية.
ولمعرفة خبث السلطات الاستعمارية وضعت المادة الرابعة والعشرون: تقدم الدولة المنتدبة إلى عصبة الأمم تقريرا سنويا بصورة تقنع المجلس يتناول التدابير التي اتخذت أثناء تلك السنة لتنفيذ نصوص الانتداب، وترسَل نسخا من جميع الأنظمة والقوانين التي تسن أو تصدر أثناء تلك السنة مع التقرير.
وكذلك المادة الخامسة والعشرون: يحق للدولة المنتدبة بموافقة مجلس عصبة الأمم أن ترجئ أو توقف تطبيق ما تراه من هذه النصوص غير قابل للتطبيق على المنطقة الواقعة ما بين نهر الأردن والحد الشرقي لفلسطين كما سيعين فيما بعد بالنسبة للأحوال المحلية السائدة في تلك المنطقة، وأن تتخذ ما تراه ملائما من التدابير لإدارة تلك المنطقة وفقا لأحوالها المحلية بشرط ألا يؤتى بعمل لا يتفق مع أحكام المواد 15، 16، 18.
وتختم المادة الثامنة والعشرون: في حالة انتهاء الانتداب الممنوح للدولة المنتدبة بموجب هذا الصك، يتخذ مجلس عصبة الأمم ما يراه ضروريا من التدابير لصون استمرار الحقوق المؤمنة بموجب المادتين 13 و14 على الدوام لضمان العصبة، ويستعمل نفوذه لأن يكفل بضمان الجمعية احترام حكومة فلسطين للالتزامات المالية التي تحملتها إدارة فلسطين بصورة مشروعة في عهد الانتداب احتراما تاما، وفي جملة ذلك حقوق الموظفين في رواتب التقاعد أو المكافآت.
عمليا نفذت الدولة المنتدبة مواد الصك وزادتها في قمع السكان العرب والضغط عليهم بممارسة التطهير العرقي المنظم، بكل الوسائل والأعمال الإجرامية.
برز ذلك في تسمين المنظمات الصهيونية عسكريا وتجهيزها لوجستيا وتدريبها في معسكرات الجيش البريطاني وعلى يد القوات البريطانية. مثل "هاجاناه" و"اشتيرن" و"آرجون"، ورغم أنها كانت غير قانونية، فإن البريطانيين اعتمدوا عليها عند القيام بعمليات نصب الكمائن ضد الثوار والمقاومة الفلسطينية. كما "قدمت الهاجاناه الآلاف من الرجال الذين انضموا إلى قوة الشرطة الموازية "بدوام جزئي" التي جمعها البريطانيون أثناء محاولتهم سحق الثورة الفلسطينية. وتم جلب قادة الهاجاناه إلى "فرق ليلية خاصة" بقيادة أوردي وينجيت، الضابط البريطاني المعروف بعنفه بشكل خاص". ورغم كونه "شخصا غريب الأطوار تمتع بدعم من رؤسائه في فترة حرجة ـ وساعد في تشكيل تكتيكات وفكر الرجال الذين قاموا بتجريد الفلسطينيين من ممتلكاتهم قسرًا وطردهم من ديارهم"!
حين صدر وعد بلفور كان تعداد اليهود في فلسطين لا يزيد عن 5% من مجموع عدد السكان. و"أصدرت الحكومة البريطانية أوامرها إلى الإدارة العسكرية البريطانية الحاكمة في فلسطين، أن تطيع أوامر اللجنة اليهودية التي وصلت إلى فلسطين في ذلك الوقت برئاسة حاييم وايزمن، وعملت على تحويل قوافل المهاجرين اليهود القادمين من روسيا وأوروبا الشرقية إلى فلسطين، ووفرت الحماية والمساعدة اللازمتين لهم"، باستمرار من خلال الإدارة البريطانية المنتدبة.
وأخيرًا كان الانسحاب البريطاني من فلسطين، قبل شهر من موعده المقرر، مفاجئًا بالنسبة للعرب، حيث أنهت بريطانيا انتدابها في 14 أيار/ مايو 1948، وانسحبت ولم تعطِ للفلسطينيين أية فرصة حتی آخر لحظة لأن يمتلكوا أية مقومات للدفاع عن أنفسهم، بينما كانت قد انسحبت من المناطق اليهودية قبل ستة شهور تاركة للصهاينة الكثير من السلاح والعتاد ومعسكرات الجيش البريطاني بكل تجهيزاتها، وبالتالي بريطانيا تتحمّل المسؤولية الكاملة سياسيًّا وتاريخيًّا وأخلاقيًّا وقانونيًّا، عن المحرقة الحقيقية والنكبة الشاملة التي حلَّت بالشعب العربي الفلسطيني وما زال يعيشها حتی اليوم.
* ينظر للمصادر من محرك البحث "جوجل" بعنوان المقال، من دراسات وترجمات.