د جمال عبد العزيز أحمد*هذه ظاهرة لغويَّة تحدثتُ عنها من قَبْلُ، وخلاصتُها تعدُّدُ دَلالاتِ الفعل الواحد، إذا اختلف سياق وروده، وتتعدُّد معه وظائفه النحوية، وعمله الإعرابي، وتلك الخصيصة للُّغة تتراءى كثيرًا للمتخصص، والمتضلع من علم اللغة، والنحو، ويلحظها كثيرًا في التراكيب القرآنية، فمن ذلك مثلا الفعل (جعل) نجد أن له سياقاتٍ مختلفةً بدلالات متباينة، ووظائفَ نحويةٍ متعددة، فمن معانيه أن يأتي على معنى الفعل (خلق)، ويكون من باب (فتح، يفتح)، أي:(جعل، يجعل)، وقد ورد هذا المعنى في كتاب الله تعالى، حيث يقول الله تبارك وتعالى في مطلع سورة الأنعام:(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ)، أي: خلق الظلمات والنور على غير مثال سابق، وهو ما عليه المفسرون من هذا اللفظ، ومثل ما ورد في سورة النساء (الآية : 5) من قوله تعالى:(وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا)، أي: خلقها لكم لتقوموا بحقها، وتحسنوا استعمالها، وما جاء في سورة الأعراف من قوله عز وجل:(وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ)، ومثلها آيات كثيرة في الكتاب العزيز، وهذا الفعل بهذا المعنى وتلك الدلالة ينصب مفعولًا به واحدًا، مثل الفعل (خلق)، نقول:(خلق الله الأرض، وخلق الأنعام وخلق السموات، وخلق الجبال .. ونحوها)، أما الدلالة الثانية للفعل جعل فهي بمعنى (حوّل وصيّر)، فتكون من أخوات (ظن)، من أفعال التحويل والجعل، وتنصب مفعولين اثنين، نقول:(جعلت الأخشاب أبوابًا، وجعلت الأوراق كتابًا)، ومنه في القرآن الكريم، سورة الإسراء (الآية : 12):(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا)، ومنه في الكتاب العزيز:(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ، وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ) (المؤمنون 49 ـ 50)، ومنه:(وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (العنكبوت ـ 27)، فالفعل (جعل) إن نهض بمعنى الجعل والتغيير والتحويل نصب مفعولين، وخرج من المعنى الأول، وهو خلق المتعدي إلى مفعول واحد، وأما الدلالة الثالثة للفعل:(جعل) فإن يكون بمعنى شرع، وبدأ، نقول:(جعلتُ أشرح لطلابي) أيْ: بدأت، وشرعت في الشرح، و(جعلتُ أخطب الجمعة)، أيْ: بدأت بالفعل فيها، والناس يستمعون، وهذا الاستعمال وارد في لغة العرب، ومنه ورد هذا في حديث الرسول أمام قريش عندما كان يخبرهم ببعثته، ويدلل على صدقه بقوله - كما في الرواية:(صعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ ثلاث وعشرين سنة على جبل في مكة، فجعل ينادي: با بني فهر، يا بني عدي، لبطون قريش، حتى اجتمعوا، فجعل الرجل - إذا لم يستطع أن يخرج - أرسل رسولًا لينظر ما هو؟ فجاء أبو لهب وقريش، فقال لهم: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا، قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تبًّا لك سائر اليوم!، ألهذا جمعتنا؟!)، فقد ورد الفعل جعل بمعنى شرع وبدأ وراح ينفذ الشيء مرتين، وهو فيهما قد ورد على تلك الدلالة؛ ومن ثم يكون من أخوات (كاد) التي تعمل عمل (كان) بشروطها المعروفة، وعندئذ لا يوصف الفعل (جعل) لا بتعدٍّ، ولا بلزوم؛ لمغايرته الأفعال المتعدية، والأفعال اللازمة، فيكون من قبيل الأفعال الناقصة.فيتحصل لديك ثلاثة معانٍ للفعل (جعل)، الأول بمعنى (خلق)، وينصب مفعولًا به واحدًا، والثاني بمعنى (حوَّل وصيَّر وغيَّر) من حالة إلى حالة، وهذا يدخل تحت منظومة الأفعال التي تتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، وخصوصًا شريحة الأفعال التي تفيد منها التحويل، والجعل، والثالث يدخل تحت الأفعال الناقصة التي يسميها النحويون باب (كاد) وأخواتها، وهي تندرج تحت أفعال الشروع، فترفع الاسم، وتنصب الخبر، مثلها في ذلك العمل مثل (كان)، غيرَ أن لها شروطًا، أهمُّها أن يكون خبرها جملة فعلية، فعلها مضارع، أو يقترن الخبر فيها، ولا تدخله (أن) المصدرية الناصبة، حتى لا يتناقض مع زمن هذا الفعل، ووقت حصوله، لأن (أن) تفيد المستقبل، وهذا الفعل يفيد الحال، والآن فيتعارضان زمنا، فاشترط النحاة، وأهل اللغة أن يكون المضارع مفيدًا للحال فقط، ولا يحتمل الاستقبال، حتى يُرفَع التناقضُ، ويُزَال التضادُ.فعلى القارئ للقرآن الكريم أن يكون على علمٍ، وإلمامٍ بتلك الدلالات المتعددة للفظة الواحدة، حتى يتفهمَ سياقَات الأفعالِ القرآنيةِ في آياتِها، ويقفَ على معانيها التي سيقت لها في محَالِّها، ومكانها، فلا يخطئ الفهمَ، ولا يبعد عن جوهر المعنى، وفحوى الحديث، وتلك سمة من سمات العربية، وخصيصة من خصائصها الواضحة، إذ تتعدَّد المعاني للفظة الواحدة، ويتبعُها في ذلك تَعَدُّدٌ في الوظيفة، وفي العمل النحوي، وهي من أهم سمات لغة الكتاب العزيز، فلغتُه بحرٌ لا ساحل له، واللغة العربية من الاتساع بحيث تتناسب مع كمال، وجلال القرآن الكريم الذي نزل بها إلى آخر الحياة، ونهاية الوجود، لتدل على أن القرآن الكريم نزل من عند الله رب العالمين، وبلسان عربي مبين، ونواصل بيانَ خصائص اللغة في جانبٍ آخرَ من جوانبها في اللقاء القادم، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وكل عام، وأنتم وأسركم بخير، وتوفيق.* جامعة القاهرة - كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية[email protected]