د. جمال عبد العزيز أحمد:
هذه الظاهرة اللغويَّة التي خلاصتُها تعدُّدُ دَلالاتِ الفعل الواحد، وتعدُّد وظائفها النحوية، وعملها الإعرابي تتراءى كثيرًا للمتخصص في النحو، وعلوم اللغة، ويلحظها كثيرًا في التراكيب القرآنية، فمن ذلك مثلا الفعل (ظَنَّ) حيث نجد له معانيَ متعددةً، تصل إلى ثلاثة معانٍ، وكلُّ واحد له دلالة مختلفة، وعملٌ نحويٌّ مختلفٌ يتبع اختلاف المعنى اختلاف العمل النحوي وتعدده وفق سياقات الكلمة، فأصل (ظن) أنها تأتي بمعنى (شك)، فهي في الأصل من أفعال الشك والرجحان، نقول:(ظننتُ زيدًا مسافرًا) أيْ: شككت في سفره، ولم أتيقن منه، وبابه (ردَّ يردُّ)، أو باب (نصَر، ينصُر)، وهذه اللفظة بهذا المعنى تتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر، وتدخل تحت باب (ظن وأخواتها) بمفهومه الواسع، ولكنْ، هناك دلالة ثانية للفعل (ظنَّ)، حيث تأتي بمعنى (اتَّهم)، نقول مثلًا:(ضاع كتابي فظننت زيدًا) أيْ: اتهمته بأخذه، و(راح متاعي فظننت عمرًا) أيْ: اتهمتُه بإخفائه، ومنه (الظنين) أي: المتهم، وهناك قراءة:(وما هو على الغيب بظنين) بالظاء المحققة، أي: بمتَّهم، وهذه اللفظة بتلك الدلالة تتعدى إلى مفعول به واحد، لا مفعولين، وتخرج من باب (ظن وأخواتها)، وهناك نوع ثالث للفعل (ظنَّ) يأتي بمعنى (تيقَّن)، فيكون تمامًا مثل:(علم ورأى) من أفعال اليقين، وجعلوا منه قوله تعالى:(قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة ـ 249) أي: يتيقنون ملاقاة الله، ولا يشكُّون، لأن المقام هنا مقامُ مدح لا مقامُ ذم، ومنه قوله تعالى أيضًا في سورة البقرة:(وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ، الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) (البقرة 45 ـ 46)، فهم يظنون، أيْ: يعتقدون جازمين، ويتيقنون من ملاقاة ربهم سبحانه، ومنه قوله تعالى:(وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ، وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ، إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (القيامة 28 ـ 30)، لأنه على فراش الموت، ولا مجال للشك، ولا للظنِّ بمفهومه الأصلي، بل المقامُ مقامُ يقينٍ، وعلمٍ، وتسليمٍ، واعتقادٍ.

فيتحصل للفعل (ظنَّ) عندئذ ثلاث دلالات، وكلُّ دَلالة لها سياقُها، وعملُها النحويُّ الذي يختلف عن سياقِ الأخرى، وعملِها النحويِّ، ومنه الفعل:(أخذ) الذي نجد له معنيين، الأول منهما (أخذ) بمعنى تناول الشيء، نقول:(أخذ زيدٌ كتابَه) أيْ: تناوله بيده، و(أخذ الطالب شهادته من أستاذه)، أيْ تناولها بيده، وبابه (نصر، ينصر)، (أخذ، يأخُذ)، ومنه في كتاب الله:(خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) (الأعراف ـ 199)، ومنه:(خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (التوبة ـ 103)، والأمر منه (خُذْ) بوزن (عُلْ) بحذف الهمزة المقابلة لفاء الميزان، ومصدره (أخْذا)، ولكنَّ هناك نوعًا آخرَ للفعل (أخذ) يُدخِله في باب (الشروع) الذي يعمل عمل (كان)، وعندئذ يشترط في خبره أن يكون مضارعًا، رافعًا للضمير المستتر، وألا تدخله (أنْ) المصدرية الناصبة التي تُخلِص الفعل للمستقبل؛ لكونه يدل بمعناه هذا على الحال والآن، فيتعارض معه دخول (أنْ) المصدرية التي تأتي للمستقبل، نقول:(أخذتُ أتكلم عن بحثي) أي: شرعتُ، وبدأتُ، و(أخذتُ أخطب الجمعة) أيْ: بدأتُ، وشرعتُ، فهي بمعنى (بدأ، وشرع) في الشيء، وتكون عندئذ من الأفعال الناسخة التي تعمل عمل (كان)، ولا توصف لا بتعدٍّ، ولا بلزوم؛ حيث إنه لا ينطبق عليها لا شرطُ التعدي، ولا شرطُ اللزوم، فيتحصل لديك للفعل (أخذ) دلالتان: الأولى التناولُ للشيء، والثانية البدءُ والشروعُ في فعل الشيء، فعلى القارئ للقرآن الكريم أن يكون على ذِكْرٍ من تلك الدلالات؛ حتى يتفهمَ سياقَ الأفعالِ في آياتِها، ويقفَ على المعنى في محَلِّه، ومكانه، فلا يخطئ الفهم، ولا يبعد عن جوهر المعنى، وتلك سمة من سمات العربية، وخصيصة من خصائصها الواضحة، حيث تتعدَّد المعاني للفظة الواحدة، ويتبعُها في ذلك تَعَدُّدٌ في الوظيفة، والعمل النحوي، وهي من أهم سمات لغة الكتاب العزيز، فلغتُه، ومعانيها بحرٌ لا ساحل له، وجمالٌ في جمال، وكمالٌ في كمال، واللغة العربية بذلك ترتقي لتتناسب مع كمال، وجلال القرآن الكريم الذي نزل بها إلى آخر الحياة، ونهاية الوجود، إنها لغةُ القرآن الكريم، الذي نزل في حقه قوله تعالى:(بلسان عربي مبين)، ونواصل بيانَ خصائص اللغة في جانب آخر من جوانبها في اللقاء القادم، وصلى الله، وسلم، وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله، وصحبه أجمعين، وكل عام، وأنتم وأسركم بخير، وتوفيق.

* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية.

[email protected]