محمود عدلي الشريف:أيها الصائمون: اليوم موعدنا لنشاهد عمامة رسول الله (صلى الله عليه وسلم) والتي تفتح لنا بديعة من بدائع الجمال اللامتناهية في خلقته وهيئته وشكله وعظمة شخصه الكريم ـ صلوات ربي وسلامه عليه ـ فما أجمله وما أجمل عماماته في السفر والحضر والحل والترحال، وعلى الرغم من أننا جميعا نشتاق إلى رؤية عماماته ـ بأبي هو وأمي ونفسي صلوات ربي وسلامه عليه ـ إلا أننا نجيب على هذا السؤال القائل: لماذا كان رسول الله يلبس العمامة؟ والإجابة عنه تأخذنا إلى عبق التاريخ لننظر نظرة تاريخية عن العمامة، وسنجد أن العمامة عُرف بها العرب، بل هي من تيجانها، ومن عاداتهم الأصيلة، ذكر صاحب (البيان والتبيين 3/ 67): اشتهروا بها حتى قيل:(اختصّت العرب بأربع: العمائم تيجانها، والدروع حيطانها، والسيوف سيجانها، والشِّعر ديوانها). وقال غيلان بن خرشة للأحنف:(يا أبا بحر، ما بقاء ما فيه العرب؟ قال: إذا تقلدوا السيوف، وشدوا العمائم واستجادوا النعال، ولم تأخذهم حمية الأوغاد. وقيل لأعرابي: إنك لتكثر لبس العمامة؟ قال: إن شيئًا فيه السمع والبصر لجدير أن يوقي من الحر والقر. والعمائم تختلف في أسمائها وأشكالها وألوانها وأطوالها وهيئة تشكيلها، وهذا يتوقف على مكانتهم وسيادتهم وذّوقهم، وقتالهن وبراعتهم، وتقاليدهم وعاداتهم)، وقال علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قولًا أحسن من هذا، قال:(تمام جمال المرأة في خفّها، وتمام جمال الرجل في عِمَّته)، وقال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه:(العمائم تيجان العرب)، وكانت من علامات الشرف والسؤدد عندهم .. وذكروا العمامة عند أبي الأسود الدؤلي فقال:(جنّة في الحرب، ومكنّة من الحر، ومدفأة من القر، ووقار في النديّ، وواقية من الأحداث، وزيادة في القامة، وهي بعد عادة من عادات العرب) (بتصرف واختصار).وقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يأتي من عادات العرب ما استطيب منها، ولهذا فقد كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يلبس العمامة وقد اشتهر عنه ذلك، عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ قال:(كان ـ رسول الله ـ يدير كور العمامة على رأسه، ويغرزها من ورائه، ويرخي له ذؤابة بين كتفيه) (مرشد ذوي الحجا والحاجة إلى سنن ابن ماجه والقول المكتفي على سنن المصطفى 21/ 106)، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كَانَ يَلْبَسُ الْقَلَانِسَ تَحْتَ الْعَمَائِمِ وَيَلْبَسُ بِغَيْرِ الْقَلَانِسِ اهـ. كما في (مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 7/ 2777) .. وغيرها كثير من الروايات، بل روي أنواع من عماماته (صلى الله عليه وسلم) منها: العمامة السوداء: عَنْ جَعْفَرِ بْنِ عَمْرِو عَنْ أَبِيهِ قَالَ:(رَأَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ يَخْطُبُ عَلَى الْمِنْبَرِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ) (رواه الستة عدا البخاري)، وعَنْ جَابِرٍ قَالَ:(دَخَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ وَعَلَيْهِ عِمَامَةٌ سَوْدَاءُ). (الشمائل المحمدية للترمذي، ص: 105)، وَفِي مسلم:(إِنَّهُ دَخَلَ مَكَّةَ وَعَلَيْهِ أُهْبَةُ الْقِتَالِ، وَالْمِغْفَرُ عَلَى رَأْسِهِ ـ المغفر: زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس تحت القلنسوة) (الانتصارات الإسلامية في كشف شبه النصرانية 2/ 720) ـ فَلَبِسَ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ مَا يُنَاسِبُهُ، وفي توضيح لصاحب كتاب (غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب 2/ 246): واحتِمَالِ أَنْ يَكُونَ وَقْتُ دُخُولِهِ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ ثُمَّ أَزَالَهُ وَلَبِسَ الْعِمَامَةَ بَعْدَ ذَلِكَ، وفي (سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 7/ 27):(قال القاضي وقال غيره يجمع، بأن العمامة السوداء كانت ملفوفة فوق المغفر أو كانت تحت المغفر، وقاية لرأسه من صدأ الحديد)، ويقول صاحب (منتهى السؤل على وسائل الوصول إلى شمائل الرسول (ص) (1/ 517): قال العلماء: إنّ الحكمة في إيثار الأسود يوم الفتح على البياض الممدوح: الإشارة إلى ما منحه الله تعالى به ذلك اليوم من السّؤدد الذي لم يتّفق لأحد من الأنبياء قبله، ومنها العصابة الدسماء: عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ:(أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ خَطَبَ النَّاسَ وَعَلَيْهِ عِصَابَةٌ دَسْمَاءُ) (الشمائل المحمدية للترمذي، ط: المكتبة التجارية ص: 121)، وَأَرَادَ بِالْعِصَابَةِ: الْعِمَامَةَ. قَوْلُهُ: دَسْمَاءُ، أَيْ: سَوْدَاءُ. (شرح السنة للبغوي 12/ 39)، وقال ابن حجر:(فتح الباري 10/ 274): والعصابة: شد الخرقة على ما أحاط بالعمامة قلت الجامع بينهما وضع شيء زائد على الرأس فوق العمامة .. والله أعلم، ومنها: البيضاء في السفر والخضراء في الحضر: قال الحافظ السّخاوي: رأيت مَنْ نَسَبَ إلى عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنّ عمامة رسول الله كانت في السَّفر بيضاء وفي الحَضَر خضراء، وفي كتاب (فيض القدير 5/ 214):(أنها كانت في السفر بيضاء وفي الحضر سوداء من صوف ..)، وقيل: عكسه، كما في كتاب (التنوير شرح الجامع الصغير 8/ 560)، ومنها العصابة الصفراء أو الحمراء: عَنِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ وَعَلَى رَأْسِهِ عِصَابَةٌ صَفْرَاءُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا فَضْلُ، قُلْتُ: لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: اشْدُدْ بِهَذِهِ الْعِصَابَةِ رَأْسِي، قَالَ: فَفَعَلْتُ، ثُمَّ قَعَدَ فَوَضَعَ كَفَّهُ عَلَى مَنْكِبِي، ثُمَّ قَامَ فَدَخَلَ فِي الْمَسْجِدِ، وَفِي الْحَدِيثِ قِصَّةٌ (مسند الحارث 2/ 610)، وفي (جامع المسانيد والسنن 7/ 52)، قال:(دخلت على النبي - صلى الله عليه وسلم - في مرضه، وعند رأسه عصابة حمراء). ومنها العمامة القطرية: عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: (رأيت رسول الله يتوضأ وعليه عمامة قَطَريّة فأدخل يديه من تحت العمامة ولم ينقض العمامة) أخرجه أبوداود، ومعنى (قطرية: نسبة إلى قطر)، قال في النهاية: هو ضرب من البرود فيه حمرة ولها أعلم فيها بعض الخشونة، وقيل: هي حلل جياد تحمل من قبل البحرين، وقال الأزهري: في أعراض البحرين قرية يقال لها (قطر) ـ وأحسب الثياب القطرية نسبت إليها، فكسروا القاف للنسبة وخففوا (سنن ابن ماجه 1/ 187)، ومنها حَاشِيَةَ البُرْدٍ: روى البخاري (7/ 145): (وَقَالَ أَنَسٌ: عَصَبَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ عَلَى رَأْسِهِ حَاشِيَةَ بُرْدٍ)، ومعنى حاشية برد: طرفه والبرد كساء مربع فيه صغر تلبسه الأعراب، وقد يكون أسود وقد يكون أخضر والعرب تطلق الأسود على الأخضر وبالعكس، (صحيح البخاري 5/ 35)، ومنها قلنسوة بيضاء: عون المعبود و(حاشية ابن القيم 11/ 88) وفي الجامع الصغير برواية الطبراني عن ابن عَبَّاسٍ قَالَ:(كَانَ يَلْبَسُ قَلَنْسُوَةً بَيْضَاءَ)، قَالَ العزيزي:(إسناده حسن) ومعنى: قَلَنْسَوة: بفتح القاف واللام وسكون النون وفتح السين المهملة، وفي القاموس إذا فتحت ضممت السين وإذا ضممتها كسرتها، والمراد: ما يلبس في الرأس، وتسمى الآن عراقية وكوفية وشامية منسوبة إليها، وفي رواية ابن عساكر:(كان يلبس (صلى الله عليه وسلم) القلانس اليمانية وهي البيض المضربة، ويلبس قلنسوة ذات أذان في الحرب وكان ربما نزع قلنسوته فجعلها سترته بين يديه وهو يصلي) (شرح مسند أبي حنيفة 1/ 142)، وَقَدْ ثَبَتَ فِي السِّيَرِ بِرِوَايَاتٍ صَحِيحَةٍ (أَنَّ النَّبِيَّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) كَانَ يُرْخِي عَلَاقَتَهُ أَحْيَانًا بَيْنَ كَتِفَيْهِ، وَأَحْيَانًا يَلْبَسُ الْعِمَامَةَ مِنْ غَيْرِ عَلَاقَةٍ) (جمع الوسائل في شرح الشمائل 1/ 168)، وفي (الشمائل، ص:107): عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ:(كَانَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ إِذَا اعْتَمَّ سَدَلَ عِمَامَتَهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ)، وذكر الجزري في (تصحيح المصابيح) عن النووي:(أنه كان له عمامة قصيرة وعمامة طويلة، وأن القصيرة كانت سبعة أذرع، والطويلة اثني عشر ذراعًا)، وكان من هَدْيِهِ أن يسمي غالب الأشياء؛ فكانت له عمامة يسميها السَّحَاب، وقد وهبها لعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ قالوا فربما طلع عليهم علي وعليه هذه العمامة فيقول الرسول:(أتاكم علي في السَّحاب) ذكره ابن الأثير في (أسْد الغابة). وقد عمّم (عليه الصلاة والسلام) عبد الرحمن بن عوف بعمامة سوداء وأرخاها من خلفه قدر أربع أصابع، وقال: هكذا فاعتَّم فإنه أَعْرَبُ وأجمل (زاد المعاد في هدي خير العباد 1/ 130) .. والله أعلم .