د. أحمد مصطفى أحمد:
لا تكاد تخلو وسيلة إعلام، اقتصادية أو إخبارية عامة، من متابعة لارتفاع سعر العملة المشفرة "بيتكوين" التي تضاعف سعرها منذ إطلاقها أكثر من عشرة آلاف مرة حتى الآن وما زال يرتفع. ورغم أن الأسواق تشهد غليانا منذ مدة، وهناك تضخم مبالغ فيه في قيمة الأصول الاستثمارية، وهو أمر يتكرر كل عدة سنوات إلا أن موجة العملات المشفرة هي الجديد هذه المرة. فما هي تلك العملات المشفرة؟ ولماذا هذا الإقبال الجنوني عليها؟ وما مستقبلها؟ وبداية نشير إلى أن "بيتكوين" ومثيلاتها ليست عملة بالمعنى المعروف، بل العكس هي "مضاد العملة" إذا جاز التعبير.
فالعملة هي صك النقد الوطني للدول تصدرها البنوك المركزية في أشكال مختلفة (معدنية، ورقية أو حتى رقمية) وهي ضمونة القيمة من حكومة تلك الدولة وتخضع للتنظيم من سلطاتها النقدية. أما "بيتكوين" ومثيلاتها فهي عبارة عن سطر من برامج حاسوبية (كمبيوترية) مشفرة في شكل لوغاريتمات معقدة يصعب فك رموزها، وليس لها أي وجود مادي. ومحفوظة في سجل إلكتروني على شبكة عالية التأمين تسمى "بلوكتشين". كما أنها لا تصدر عن أي جهة، بل هي متاحة لأي شخص يمكن أن يصدرها ويمتلكها ويتعامل بها. ولا يوجد خادم حاسوبي (كمبيوتري) مركزي تحفظ عليه معلوماتها، بل إن شبكاتها موزعة بين ملايين أجهزة الحاسوب (الكمبيوتر) للتشغيل والتخزين الإلكتروني. في النهاية هي اللامركزية المطلقة وأيضا "المجهولية" التامة، إذ تتيح العملات المشفرة خصوصية كاملة فلا يعرف من يمتلك ماذا ويصل المتعامل لرصيده في محفظة إلكترونية بطبقتن من التشفير بأرقام سرية وكلمات مرور مشفرة. لذا، فهي ليست عملة بل نقيض العملة تقريبا.
"بيتكوين" ومثيلاتها هي أصول استثمارية رقمية، يتم تداولها عبر ما تسمى البورصات المشفرة، وتشهد مضاربات ترفع سعرها بشدة كما تهوي به أحيانا. فقد بدأت "بيتكوين" مثلا بسعر نحو عشرة دولارات. وقبل نحو أربع سنوات وصل سعرها إلى عشرين ألف دولار قبل أن تهوي بنحو سبعة أضعاف إلى نحو ثلاثة آلاف دولار. وبعد ذلك عاودت الارتفاع في عام الوباء، مع وقت الفراغ لدى الملايين واستخدامهم للحاسوب (للكمبيوتر) وسعيهم للربح السريع والهائل، ما جعلهم يضاربون في أي شيء وكل شيء. هذا بالإضافة إلى ظاهرة الأجيال الجديدة التي سبق وأشرنا إليها في هذه الزاوية والتي تقود ما يمكن تسميته "الشعبوية المالية". ويشبه البعض "بيتكوين" وغيرها بالمشتقات الاستثمارية التي كانت السبب في الأزمة المالية العالمية في 2008. لكن هناك فارقا أساسيا هو أن تلك العملات المشفرة لا تخضع لأي قواعد.
طور مجهولون "بيتكوين" قبل أكثر من عشر سنوات لتستخدم أساسا كعملة تبادل على الإنترنت الأسود (Dark Web) في عمليات الجريمة المنظمة من قرصنة وتجارة مخدرات ودعارة وما شابه. ذلك لميزة الخصوصية المطلقة والمجهولية، ثم تحول إلى عملات نقدية عادية دون الكشف عن هوية من يدفع بها مقابل تلك المنتجات والخدمات غير القانونية. ثم بعد أكثر من عامين أصبح برنامج الحاسوب (الكمبيوتر) الخاص بها متاحا على الإنترنت العادي المعروف ليتعامل بها أي شخص. وفي البداية، جذبت "بيتكوين" المغامرين من المبرمجين ومهووسي الحاسوب (الكمبيوتر). إذ يمكن لأي شخص أن يكون عملة جديدة باستخدام أجهزة حاسوب (كمبيوتر) قوية وبعمليات معقدة تستهلك كمًّا هائلًا من الطاقة. ولأن من طوروا "بيتكوين" في البداية جعلوا لها سقفا نهائيا من حيث العدد المتاح، فلا يتخطى 21 مليون "بيتكوين". والآن هناك أكثر من 18 مليون "بيتكوين" مسجلة على شبكة بلوكتشين، وبالتالي فالعدد المتبقي الذي يمكن تكوينه محدود. وهذا أيضا سبب ارتفاع سعر "بيتكوين"، ليتجاوز سوقها الآن التريليون دولار.
وهناك جدل كبير حول فائدتها كوسيلة تحوط في مواجهة التضخم، الذي يخفض القوة الشرائية للعملات النقدية العادية. فالبعض يصورها على أنها ملاذ آمن للقيمة مثل الذهب، لكن الواقع أن الذهب في النهاية إلى جانب أن له وجودا ماديا ملموسا فسعره أكثر استقرارا، وليس متذبذبا بحدة مثل "بيتكوين" ومثيلاتها. وهناك مخاطر أنها في النهاية مجرد شفرات برامجية حاسوبية (كمبيوترية)، فمهما كان التأمين وتعقيد الخوارزميات فهي عرضة للقرصنة أو حتى عمليات المحو من على السجلات نتيجة أي خلل غير متوقع. ويظل مستقبل تلك المشفرات غير واضح، خصوصا مع استعداد كثير من الدول لطرح عملات رقمية – ستكون موازية لعملاتها الوطنية ومضمونة أيضا من الحكومات ومنظمة من قبل البنوك المركزية. ومن شأن تلك العملات الرقمية الوطنية، مثل اليوان الرقمي في الصين الذي على وشك طرحه قريبا أو اليورو الرقمي في أوروبا، أن تفقد تلك العملات المشفرة ميزتها الرقمية. لكنها ستظل طبعا مستهدفا لكل من يرغب في الخصوصية المطلقة واللامركزية. كما أنها كأصل استثماري رقمي ستبقى مادة للمضاربة من المستثمرين القادرين على المخاطر الشديدة مقابل الربح الأكبر والأسرع. ومع اقتراب "بيتكوين" مثلا من سقف عددها النهائي، واستمرار المضاربات عليها، يتوقع البعض أن يرتفع سعرها إلى بضع مئات آلاف الدولارات. لكن ذلك الغليان قد يكون محفزا لفقاعة استثنائية يمكن أن تنفجر في أي لحظة وتمحو معها عشرات مليارات الدولارات من ثروات المستثمرين.