د.جمال عبد العزيز أحمد:
.. وما ورد في المسند (12084) عن أنس ـ رضي الله عنه ـ عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال:(أعطيتُ الكوثرَ، فإذا هو نهر يجري على ظهر الأرض، حافتاه قباب اللؤلؤ، ليس مسقوفًا، فضربتُ بيدي إلى تربته، فإذا تربتُه مسك أذفر، وحصباؤه اللؤلؤ)، وصححه الألباني في الصحيحة (2513)، وفي رواية عنه كذلك في المسند أيضًا (12828): أنه قد ورد‏ أَنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم)‏ ‏سُئِلَ عَنْ ‏ الْكَوْثَرِ، فقَالَ:(ذاك نهر أعطانيه الله ـ يعني في الجنة ـ أشدُّ بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، فيه طير أعناقها كأعناق الجزر (الإبل). قال عمر: إِنَّ تِلْكَ لَطَيْرٌ نَاعِمَةٌ، فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم):(أَكَلَتُهَا أَنْعَمُ مِنْهَا يَا ‏‏عُمَر)، ‏صححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (3740).

هذه أوصاف موجزة للنهر أو الحوض، وقد حفلتْ كتب أوصاف الجنة بالمزيد لكل مستزيد، والعطاءُ يشمل العطاءين: العطاء المادي، والعطاء المعنوي، فقد نال الرسول الكريم وحده الكوثر دون غيره، ونال معه هذا الشرف بالتفرد، وأن الجميع سيشربُ من يديه الشريفتين، والفعل (أعطى) يتعدى إلى مفعولين ليس أصلهما المبتدأ والخبر، وهما هنا (الكاف، والكوثر) ولفظة الكوثر على وزن (فَعْوَل) لو قلنا بزيادة الواو كجوهر، وعوقد، أو بوزن (فعلل) إن قلنا بأصلية الواو، وكوثر الشيء جعله كثيرًا منتشرًا، وكثُر كثرة مبالغة، والكوثر ـ كما في كتب المعاجم ـ تدور حول العدد الكثير، والخير الكثير العميم، والرجل السخيّ، وهذا يعني أن كلَّ ما جاء في وصف النهر المتقدم حقيقيٌّ: لغة، وشرعًا، وهو كناية ـ كما سبق ـ عن مكانته السامية، ومنزلته العالية، وهذه الجملة المؤكدة بكل ألوان التوكيد، وبالفعل الماضي توضِّح كذلك بكل كلماتها مكانة الرسول عند ربه، فقد جاء فيها أربعة مؤكدات الأول:(إنَّ)، والثاني: (نا)، والثالث: أنها جملة اسمية، والرابع: ورود (نا) في الفعل الماضي (أعطى)، وهو الضمير العائد على الله عز وجل، وورود مؤكدات أربعة في آية واحدة دليلٌ على صواب، وصحة ما سبق من: سموِّ المنزلة، وبُعْد المكانة، وكرم العطاء، وعلو المرتبة، كما قال تعالى:(منهم من كلَّم الله ورفع بعضهم درجات)، فالجملة الابتدائية التي انكسرت همزة (إن) فيها قد ترابطت مع بعضها ترابطًا عضويًا، حيث إن الحرف (إنَّ) يريد اسمًا وخبرصا، وهما العنصران الأساسيان في التركيب، وقد أخذهما، كما أن الفعل (أعطى) يتعدى إلى مفعولين بعد طلبه الفاعل، وقد أخذهما، وكلها جملة متآزرة، مترابطة، متلازمة، تماسكت لفظا ومعنى، جزءًا وكُلًّا، وقد ترابطت جميعا ترابطًا قويًا، وتماسكت تماسكًا عضويًا حسب معطيات اللغة، ووفق متطلبات الدلالة، ويرتبط التركيب النحوي بالمعنى الدلالي ارتباطَ القلب بالنبض، وارتباط الروح بالجسد، كما توضِّح ذلك الدراساتُ النصية، واللسانية التي تنظر نظرة كلية للنص، نظرة متشابكة، متداخلة، يتناغم فيها الأول مع الآخر، ويشعُّ الوسط على ميمنته، وميسرته، وتتشابك أشعةُ الكلمات، وتتداخل دلالاتها حتى لكأنها منظرٌ بديع، لا تعرف إلا أن تتسمر أمامه عيناك ، وينبهر حياله عقلك، ثم تأتي بعد ذلك الفاء الربطة، أو الفاء التفريعية التي تنبئ عن شرط محذوف، جاءت هي لتوضحه، وتتفرع عنه، والمعنى: إنْ كنتَ قد عرفت ذلك، وأدركت حجم النعمة، وكمال العطاء، فصلِّ لربك، وانحر، فالفاء أكدت على الربط بين ما قبلها، وما بعدها، وربطتهما برباط متين، ارتباط الشرط بالجزاء، وترتُّب الجواب على الشرط، والفاعل يعود على الرسول في الجملة الأمرية ذات الأسلوب الإنشائي الذي غرضه النصح والإرشاد:(فصل)، ومنه تعلم أن أيَّ نعمة تستوجب الشكر لزيادتها، وبقائها:(وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) (ابراهيم ـ 7)، وشبه الجملة:(لربك) يبين كيفية التوجه بكل طاعة، وأنها لا تكون إلا لله وحده، وهنا قال:(لربك)، فاختار صفة الربوبية التي الأصل في توجُّه الصلاة من المفترض أنه يتبع صفة الألوهية، ولكن المقام مقام حديث عن النبي، أكرم الخلق على الحق، وأكمل البشر عند رب البشر، فخصه بالربوبية، صفة الحنو والعطف والجمال، والكاف في (لربك) تخصه، فهو أسلوب تخصيص، اختص به الرسول الكريم وحده هنا، وأمته بعده، ومن ورائه، وهذه الجملة ارتبطت بما بعدها برباط العطف، حيث جاءت الواو لعطف الجمل، فعطفت جملة إنشائية أمرية على مثيلتها السابقة الإنشائية الأمرية، والواو هنا للترتيب على غير عادتها، فالأصل في الواو أنها لمطلق الجمع، أو للجمع المطلق، ولكنْ هنا، ولغرض التشريع، أنه يلزم المضحِّي الصلاة أولًا ثم الذبح ثانيًا، لأنه حكم في الأضحية، فالواو للترتيب، بمعنى أن الصلاة تأتي أولًا، ويتأخر الذبح، ويأتي الذبح ثانيًا، فمن ذبح قبل الصلاة فهي ذبيحة عادية، لا تنهض لتنال ثواب الأضحية؛ لأن الحديث هنا عن أضحية أو ذبيحة الأضحى، ومعلوم أحكامها، ومن ثم فالواو للترتيب وليس لمطلق الجمع، والفاعل مستتر وجوبًا، ليبين حياء العابد لربه المعبود، وتقديمه بالعمل على استحياء لأنه مهما كان فهو قليل قليل في حق المعبود ـ جل جلاله ـ وقد متَّنَتْ جملة:(وانحر) الصلة الوثقى بينها وبين جملة (فصل لربك)، وجملة (انحر) فيها إيجاز بالحذف، أي: انحر أضحيتك، أو ذبيحتك، أو نحوها مما يقدَّم في هذا اليوم الكريم، يوم العيد، وقد تُرِكَ المفعول ليستوعب كلَّ نحر: صغُر أم كبُر، والراء تفيد تكرار الذبح، كما أن الراء في الكوثر تفيد تكرار الشربِ، والعبِّ منه، وتكرار السقيا من جماله، وتذوق كماله، والفعلان (صل وانحر) بهذين لتشكيلين الصوتيين أدَيَا معنى التكثير، والمبالغة، كما أن الراء في نطقها تنطق بصورة متتابعة وكثيرة، وراء بعضها؛ ولذلك ترى النقاد ومتذوقة الشعر قد استحسنوا قول امرئ القيس في وصف سرعة فرسه، وإقباله وإدباره الذي عبر عنه باستعمال الراء التي تفيد التكثير، وسرعة الأداء، وهو كناية عن نشاط الفرس، وقوته، سرعة حركته، ومهارته في الصيد والحرب والكر والفر، حيث قال:

مِكَرِّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ مَعًا
كَجُلْمُودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِنْ عَلِ

* كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية
[email protected]