[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2017/03/rajb.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. رجب بن علي العويسي[/author]في مثل هذا اليوم، العاشر من يناير من عام 2020 غطَّت سماء وطني الشامخة غمامة سوداء، تبدَّل فيها وجه عمان المشرق وبريقها الساطع إلى ليل مظلم وسواد مخيف، يوم الحزن الأكبر، والصرخة الأعظم، فقد حدث ما لم يكن في الحسبان، ولم يفكر فيه العقل والوجدان، لقد ضاقت بنا الأرض، وصعب علينا الأمر، وتراقصت أمامنا الأحزان، وضاعت منا الابتسامة، وامتسحت من وجوهنا الضحكة، وغابت عنا الفرحة، ورغم قناعتنا بأن الموت حق وسنة الله في الخلق، وأمر الله المحتوم ومراده النافذ، إلا أننا لم نكن نتخيله فيمن نعشق ونحب، فقد غيب الموت سندنا وعضدنا، ملهمنا وحليمنا، سيدنا وسلطاننا، نبضنا وروحنا، نهضتنا وانتصاراتنا، نجاحنا وتقدمنا، منهجنا وسيرتنا، قوتنا وعزتنا، أملنا وسلوتنا، مجدنا وتأريخنا، فرحنا وبشرنا، حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور ـ طيب الله ثراه. لقد فُجعنا بوفاته، وكُسرنا بفقده، وانهزمت أنفسنا بغيابه، واشتاقت أرواحنا لرؤيته، أدمى رحيله الجروح، وأسدل غيابه الستار على مرحلة من نهضة عمان الشامخة، فـ"إنا لله وإنا إليه راجعون".لم تكن رحلة العلاج القصيرة جدا لجلالة السلطان قابوس بن سعيد إلى جمهورية بلجيكا في السابع من ديسمبر 2019 وعودته المبكرة على غير المتوقع حسب البرنامج الطبي المقرر له؛ إلا بداية لقراءة سيناريو جديد حول صحة جلالته، قراءة بدأت ترسم فيها ملامح غير سارة، مخيلات وتناقضات كثيرة، وأحداث في النفس متغايرة، أسابيع قلائل عاشها العمانيون بعد عودته، هواجس وأفكار، وترقب وانتظار، وتضرع ودعاء، وأمل وتأملات حول الحالة الصحية لمولانا جلالة السلطان المعظم ـ طيب الله ثراه ـ هواجس كثيرة تبعدنا تارة عن الحقيقة التي يجب أن نؤمن بها كبشر، وتقربنا أحيانا من واقع الأمل، تنسينا قدرنا، وتصحح مسارنا، تبحر بنا في أعماق الحياة، وفلسفة الوجود، وتضع في مخيلتنا، هاجسنا الذي نعيشه منذ شهور في مرض مولانا السلطان قابوس، خوفا من أن يراودنا التفكير بأي سوء حول حياته، فإذا بها تقربنا أكثر من حياته وصحته، ومرضه وسقمه، مواقف صعبة وظروف غامضة معقدة، وتفسيرات وتأويلات تطول وتقصر بحجم المساحة التي يمنحها البعض في قراءة هذا الوضع والتأمل فيه وربط الأحداث ببعضها وقراءة السيناريوهات وفق استيعاب الظروف وتداخلها في وقت نشطت فيه الحسابات الوهمية المغرضة في إشاعاتها وأوهامها حول موت السلطان، حتى جاء بيان ديوان البلاط السلطاني في الحادي والثلاثين من ديسمبر 2019 معلنا بأن صحة جلالته مستقرة ويستجيب للعلاج ويتابع البرنامج الطبي المقرر له، حتى هدأت النفوس وقتها واستقرت وتنفست الصعداء، وانفرجت الأسارير وتراجعت الأنفس إلى وضعها الطبيعي مع ما يساورها من هواجس القلق، وما يحيط بها من أسوار الحزن، ليستمر الأمر في صمت آخر وانتظار بإطلالة جلالة المغفور له بإذن الله وسماع أخبار سارة عن صحته واستجابته للعلاج، لم تكن الأخبار المتداولة حول حالة الطوارئ التي كانت عصر يوم الجمعة العاشر من يناير إلا بداية لخطب جلل، تأبى النفس الرضية أن تتقبله مهما أوتيت من قوة الإيمان واليقين، فهي النفس البشرية الضعيفة، التي لا تمتلك من الأمر شيئا، والأمر كله لله. كل الخيالات كانت تحاول أن تسلبنا القوة، وتضيق علينا الأمل، وتعكر مزاجنا بأفكار سلبية، عشرة أيام من بيان ديوان البلاط السلطاني بعد عودة جلالته، ليأتي هول الفاجعة في فجر يوم الحادي عشر من يناير بيان نعي المغفور له بإذن الله تعالى مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور الذي انتقل إلى جوار ربه في يوم الجمعة العظيمة العاشر من يناير.لقد عاش أبناء عمان خلاله أصعب أيام حياتهم وأقسى لحظاتها، وأعظم ذكرى مؤلمة، بما حمله من غصة في النفس، وألم في القلب، في مشهد محزن، وحال تنفطر له القلوب، وكيف لا يكون كذلك في وطن أحب قابوس وعشقه، فكان، سمعه وبصره، وحبه وعشقه، وعشقه ونطقه، يتجلى في حياتنا، ويسمو في قلوبنا وينبض ذكره في أرواحنا فخرا به وحبا له، مددا ينسينا صعوبة الأيام، ويبعد عنا الآلام والأحزان، ويفتح لنا بابتسامته آفاق الحياة، وبإطلالته السامية مساحة الأمل والإيجابية بأننا بخير، لم يكن قابوس بن سعيد شخصا عاديا، بل كان استثنائيا بكل المقاييس، عظيما بكل استحقاق، أعطى عمان كل شيء، منحها حياته وصحته ووقته وعمره وشبابه؛ لتكون لها القوة والصدارة بين العالمين، وهو القائل ـ طيب الله ثراه ".... إني هنا أعمل لعمان أرضا وشعبا، بل إن كل عملي لها ولشعبها. ولعل اختلاطي الدائم بهذا الشعب وفر له قناعة بأن عملي محبب إليه، ومحل رضاهم... وفي الواقع فأنا لا أعمل لشيء لي بل لهم. إن متعتي هي أن أرى بلدي، وأرى شعبي بالصورة التي تخيلتها من أول يوم تسلمت فيه السلطة... إنني أشعر بأني صاحب رسالة ولست صاحب سلطة، لذلك ترى وقتي مكرسا من أجل عمان وأهلها، ولعل سر الولاء يكمن هنا في هذه الناحية، وتحديدا ناحية تماثلك بأهلك، وتفرغك للعمل من أجلهم".رحل جلالة السلطان قابوس بن سعيد الذي أحب عمان وأخلص لها، حتى سكنت قلبه وروحه، فكانت له الصحة والعافية، والحب والأمل، أفنى عمره عاملا مجتهدا من أجلها، ساعيا لتطورها وتقدمها ونهضتها وعزتها وكرامتها، فشمّر عن ساعد الجد واستنهض في شعبه الهمم من أول يوم تولى فيه مقاليد الحكم في البلاد في الثالث والعشرين من يوليو من عام 1970، لقد بنى عمان من الصفر، وانطلقت بعون الله تجوب العالم عطاءَ ونهجا، ونهضة وفكرا، ومنهجا وسياسه، وسلاما ووئاما، تلك النهضة التي قال فيها "سأعمل على جعلكم سعداء تعيشون لمستقبل أفضل، وعلى كل واحد منكم المساهمة في هذا الواجب". وهو القائل ـ طيب الله ثراه "عمان اليوم غيرها بالأمس، فقد تبدل وجهها الشاحب، ونفضت عنها غبار العزلة والجمود، وانطلقت تفتح أبوابها ونوافذها للنور الجديد"، فشق طريق التنمية في إباء وتحدٍّ مع ظروف الطبيعة وقسوة الطقس واتساع عمان من شمالها إلى جنوبها يجوب الفيافي والقفار، ويستريح تحت ظل الشجر والخيام تحفّه رعاية الله ماضيا بعزيمة وقادة، ورؤى حكيمة وأمل لم ينفد، وصبر جميل، وحكمة بالغة، ونهج عظيم، وسيرة طيبة مباركة في طريق بناء الدولة والنهوض بحياة المواطن، فاتحا لأبناء عمان أبواب العلم والمعرفة والوعي، آخذا بأيديهم إلى طريق القوة ونهج السلام، رافعا لواء العزة والكرامة لتتبوأ عمان موقعها بين الأمم وتعيد أمجادها بروح عصرية قوامها العدل والمساواة والحق والواجب، تاركا لأبناء عمان سيرة طيبة لن يأفل بريقها وإرثا حضاريا خالدا في بناء الدولة والإنسان وصناعة الأوطان.لقد شكل العاشر من يناير ذاكرة مؤلمة لكل عماني حملت معها قسوة الفراق وغصة البعاد وظلمة الحياة بعد فسحة، ليسدل الستار على خمسين عاما بدأت مع قابوس قصة كفاح وتضحية ونضال ونهضة وتقدم وبناء دولة عصرية تمتلك مقومات النجاح واساسيات البناء، وتعيش التطور والتقدم في مختلف المجالات، فكانت أعظم مرحلة في تأريخ عمان الحديث، فلقد بدأت النهضة العمانية من الصفر وها هي الآن أرقاما يفخر بها كل عماني تعاون مع قيادته الحكيمة الملهمة العظيمة؛ حتى أصبحت عمان ملء السمع والبصر وحضن وحصن المواطن العماني وكل من يعيش فيها أو يزورها، فإن الذي تحقق على الأرض العمانية أقوى وأعلى صوتا من أي أقوال، وأن الذي أُنجز أروع وأصدق من أي كلام، ورغم صعوبة الموقف ومساحة الفقد التي تركها رحيله، وهول الفاجعة التي صنعها غيابه عن أعين أبناء عمان وإطلالته السامية عليهم، في انكسار خواطرهم برحيله، وضيق نفوسهم بغيابه، فقد عاشوا برحيل سلطانهم جائحة عظيمة وأزمة قاصمة وواقع مؤلم، إلا أنهم صبروا وصابروا راضين بقضاء الله الغالب وقدره الذي لا يرد، لن تنسينا الأيام قسوتها أو تسكتنا صدمتها، فقد طوى الموت صفحة عظيمة في تأريخ الشعب العماني، وترجل فارس عمان العظيم عن جواده، رحل جلالة السلطان قابوس عن دنيانا تاركا إرثا خالدا وأمة عظيمة، تحمل على عاتقها مسؤولية المحافظة على عمان الأمانة، ونقل هذا الإرث إلى الأجيال القادمة، والمحافظة على مكتسبات هذا الوطن الغالي فهو أعظم حب لجلالة السلطان الراحل الذي كانت عمان حياته التي عمل من أجلها، ورسالته التي أحسن إليها، والأمانة التي قام برعايتها وصونها فأداها كما يجب وأكثر، وأخلص لله والوطن محتسبا أجره على الله، وسما بحبه لعمان فوق كل وصف وتقدير، فعزاؤنا في وطننا بوفاته، ولأنفسنا بفقده.وإذا كان جلالة السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه ـ قد رحل بجسده عن دنيانا، فإنه لم يرحل من حياة الشعب العماني الذي أحبه عن بكرة أبيه ولسان حال كل واحد منهم يقول: بأبي أنت وأمي مولاي صاحب الجلالة ما أطيبك حيا وما أطيبك ميتا، حينها أدرك العمانيون بأن حبهم لقابوس إنما بالسير على النهج الذي رسمه لبناء عمان، والثبات على المبدأ ووحدة الصف، وتنفيذ وصيته والحفاظ على عمان الأمانة، هكذا ودع العمانيون سلطان القلوب، قابوس الأمة، وداع الأبطال والشهداء، وداع القادة العظماء، لتنهي الخمسون عاما مددها، وترفع صحفها، وتجف أقلامها لتأخذ مسيرة الحياة فصلا آخر، وسطرا انتهت إليه الصفحة الخمسون، مرحلة أسدلت فيها الستار على خمسة عقود مضت من عمر نهضة عمان العظيمة وسلطانها المعظم؛ لتبقى منجزاته مآثر خالدة، وشواهد على عظمة ما تحقق على أرض عمان في عهده الميمون.أخيرا، ما أشبه اليوم بالبارحة، فها هي الذكرى الأولى على رحيلك الجلل مولاي صاحب الجلالة السلطان قابوس، وما زالت جراحنا بفقدك غير ملتئمة، وقلوبنا بفراقك جد مكلومة، نقلب صفحات التاريخ، ونسجل في ذاكرة الأيام، ونرسم صورتك في لوحة ذكرياتنا المحفورة في وجداننا، مضى عام كامل على رحيلك ونحن في غصة، خالد في قلوبنا، باقٍ في أرواحنا، نعيش ذكراك ونتعايش معها، كالأمل الذي يستوقد فينا دفء الحياة واحتواءها، نستذكر ابتسامتك وضحكتك، نقرأ إشراقتك وبشاشتك، نستمتع ببوحك وصدقك، نعالج أحزاننا بالنظر إلى تقاسيم وجهك كيف بدأت في عمر الزهور في يوم تسلمت فيه مقاليد الحكم شابا يانعا، وكيف انتهت وما بينهما من مواقف عظيمة وتضحيات جسيمة أرهقت بدنك وأتعبت جسدك الطاهر، وأشعلت الشيب في رأسك، وتجاعيد المرض في يديك الكريمتين، نقرأ أحلامنا في شموخك وعزتك، وأمانينا في إطلالتك وبهائك، لن تسلبك السنون من وجداننا، ولن يُسقط التأريخ يوم مولدك ويوم وفاتك ويوم فرحنا وضحكتنا وابتسامتنا واحتفالنا بعودتك من رحلات العلاج من ذاكرتنا، ستظل نهرا يتدفق بعطائه، وموردا يفيض بمائه، ونهجا يسمو في فضاءاته، إجلالا لعظيم اسمك وجلال قدرك وسمو حرفك، وحبك الذي كان لنا حياة، واسمك الذي كان لنا أبا واحتواء "أبي قابوس"، وقدرك الذي عايشنا رغم زلاتنا وقسوتنا وتقصيرنا في حقك، لن تنجب النساء مثلك، ولن تلد الأمة حكيما عظيما يشبهك، ولن تنسينا الأعوام ذكرك، أنت الخالد فينا، والمبجّل المعظّم في أحلامنا، والسلطان الشامخ في قلوبنا، نعاهدك بأن نكون خير جند لعمان، وأعظم عطاء للوطن، ويبقى الأمل الذي صنعت، والإرادة التي استنهضت، والقيم التي استنطقت، والروح التي ارتقيت بها نبلا وشرفا لعمان، نبراسا قابوسيا يضيء أحلامنا، ويبدد أحزاننا، ويسمو بأعمالنا، ويرقى بفكرنا، ويلملم جراحنا، ويداوي أسقامنا وأوجاعنا، ويعظّم وحدتنا، ويؤسس نجاحنا وتكاتفنا، ويقربنا إلى سلطاننا المجدد، هيثم المجد أمامه، وصيتك لأبناء عمان، وأمانتك التي أودعت أهل الغبيراء، فاللهم صبرا صبرا، ولطفا بنا لطفا، ورحمتك التي وسعت كل شيء، وسلام عليك يوم ولدت ويوم متَ ويوم تُبعث حيا، لتهنأ بك الجنان والحور العين الحسان، عند ملك عظيم، فروح وريحان وجنة نعيم.