د/محمد بن عبدالله الهاشمي:
ذكرنا في الحلقة السابقة ونحن نتكلم عن عارض السكر تحدثنا عن تأثير السكر على الأهلية، وسنتناول في هذه الحلقة ـ بمشيئة الله وتوفيقه ـ (طلاق السكران).
أولًا: إن كان سكره مطبقاً بحيث لا يعي ما يقول، اختلف الفقهاء في وقوع طلاقه.
أ ــ ذهب بعض الفقهاء إلى وقوع طلاقه، واستدلوا على ذلك:
1ـ بعموم قوله عزوجل:(فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ)، ووجه الاستدلال: أن النّص ورد عامّاً لم يُفرّق بين السكران وغيره، والعام يبقى عامّاً ما لم يخصص بدليل.
2 ـ قوله عزوجل:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)، ووجه الاستدلال: أنّ النّص دلّ على تكليف السكران في حالة السكر أن يقرب الصلاة، ولا ينتهي عن ذلك إلاّ المكلّف.
3 ـ أنّ السكران سكر باختياره، بمعنى أنه سعى إلى غياب عقله مختارا، فوقوع طلاقه عقوبة له على سكره وردعاً له على الوقوع في المحرمات.
وذلك بعكس المجنون فجنونه ليس باختياره.
4 ـ أنّ الصحابة جعلوه كالصاحي في الحدّ بالقذف، بدليل ما روى أبو وبرة الكلبي، قال: أرسلني خالد إلى عمر، فأتيته في المسجد ومعه عثمان وعلي وعبد الرحمن وطلحة والزبير، فقلت: إنّ خالداً يقول: إنّ النّاس انهمكوا في الخمر وتحاقروا العقوبة، فقال عمر: هؤلاء عندك فسلهم، فقال علي: نراه إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون، فقال عمر: أبلغ صاحبك ما قال، فجعلوه كالصاحي.
ب ــ ذهب بعض الفقهاء أن طلاق السكران لا يقع إن كان سكره مطبقاً بحيث لا يدرك ما يقول واستدلوا على ذلك:
1 ـ بقوله عزوجل:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ووجه الاستدلال بهذه الآية: أنّ الله عزوجل جعل قول السكران غير معتبر، لأنه لا يُدرك ما يقول، وأيضًا من شروط التكليف العقل وهو لا يعقل.
2 ـ ما روي عن عثمان: أنه قال: ليس لمجنون ولا لسكران طلاق.
3 ـ قوله (صلى الله عليه وسلم):(إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى)، فإذا عدمت نيته لزوال عقله بسكر أو جنون كانت أفعاله غير محكوم بها.
4 ـ إنّ السكران فاقد العقل فهو مثل المجنون والنائم، وحيث أن تصرفه غير صحيح لعدم وجود الارادة والاختيار أشبه بالمجنون والنائم، ولأنّ العقل شرط للتكليف إذ هو عِبارة عن الخطاب بأمر أو نهي، ولا يتوجه ذلك إلى من لا يفهمه.
3 ـ إنّ وقوع الطلاق عقوبة، والعقوبة يجب أن تكون شخصيّة، والقول بطلاق المجنون يتعدّاه إلى زوجته وابنائه، ولا يسوغ معاقبة الزوجة والأبناء بسبب سكر الزوج، هذا بالإضافة إلى أنّ الشارع حدد عقوبة السكر فلا يجوز الزيادة عليها، ويُروى عن أبي محمد وأبي الحسن ــ رحمهما الله ــ إذا كان السكران كالمجنون الملقى، لو قطع ما عقل ما يُراد به، لم يقع طلاقه.
ثانيًا: إن كان سكره غير مطبق بمعنى أن يعلم ما يقول ويميزّ بين الأشياء وقت طلاقه فطلاقه واقع باتفاق الفقهاء، جاء في كتاب الجامع للعلامّة ابن بركة:(والنظر يوجب عندي أنّ السكران الذي معه تمييز أنّ الأحكام تلزمه في كلّ شيء لأنه يفعل ما يفعله بقصد لما عنده من التمييز، وأمّا السكران الذي لا تمييز معه كالمجنون الذي تقع أفعاله معرّاه من المقاصد، والله تعالى لا يخاطب إلاّ من يعقل عنه خطابه ومن كان مجنوناً أو لا يعقل الخطاب لا تلزمه احكام العقلاء).
وحدّ السكر الذي يقع الطلاق على صاحبه، هو الذي يجعله يخلط في كلامه، ولا يعرف رداءه من رداء غيره، ونعله من نعل غيره، يقول الله عزوجل:(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنتُمْ سُكَارَىٰ حَتَّىٰ تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ)، ووجه الاستدلال بهذه الآية: أنّ الله عزوجل جعل علامة زوال السكر علمه بما يقول.
وفرّق الفقهاء بين إذا سكر بخمر أو بدواء فطلّق، فقالوا: إذا سكر بخمر وطلّق زوجته وقع الطلاق، لأنّ الخمر مسكر طبعاً محرّم شرعا، فمن قصده فقد تعرض لزوال عقله، فيَثبت عليه الطلاق لأنّه في حكم المتعمد له، وذلك أنّه إذا تعمد الإسكار فقد تعمد توابعه لأنّه يعلم أنّ السكران يجري على لسانه أشياء لم يقصدها.
وأمّا إذا سكر بدواء، فالسكر بالدواء أمر عارض، فمن قصد الدواء لم يقصد السكر، فإذا عرض عليه السكر من حيث لم يعلمه، كما إذا كان أصل الدواء مباحاً فعراه الإسكار من حيث لا يدري لم يؤاخذ بما يجري على لسانه، لأنّه في حكم المُغمى عليه.
..
وللحديث بقية.

* قاضي المحكمة العليا
[email protected]