د.جمال عبدالعزيز أحمد:(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)... فالأصل في القرآن استمرار التلاوة، وتواصل القراءة، والالتزام بها يوميًا، ولحظيًا، وعدم تركها مطلقًا، و(عليهم) تفيد علو وسمو وهيمنة القرآن الكريم، لأن (على) حرف يفيد الاستعلاء، ثَمَّ الضمير (هم) يعني: أن التلاوة غطتهم، وشملتهم، ووعتهم، ودخلوا تحتها، وشملتهم، وجمْع (الآيات) يفيد تعددها، وتعدد عطاءاتها، ومراداتها، وقيمها، وتربوياتها، والإضافة للتشريف:(آياته) فهي آيات الله العزيز الحكيم، وليست من عند أحد، وجملة: (ويزكيهم)، بالعطف على سابقتها، وجاء الفعل بالزمن المضارع ليفيد الاستمرار، فالتزكية من خلاله، وخلال الآيات مستمرة متواصلة، سرمدية أبدية، لا تنفصم عن القرآن الكريم، ولا عن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، والتزكية تعني تصفية القلب من شوائبه، وتنقية النفس من حظوظها، وطينيتها، والارتقاء بها نحو طهر الملائكة، ونقاء الملأ الأعلى، بحيث تكون نفْسًا، نقية، صفية، تقية، تُحسِن التلقيَ عن الله، وتنهض لتبعات الدين، ومقتضيات العقيدة، ومتطلبات الشرع، ومسؤوليات الإيمان، ومطالب الدعوة إلى الله، وتـأتي التزكية قبل التعليم؛ ليكون التعليم في محضنه الطبيعي، ويؤتي التعليم أُكُلَهُ، ويحقق المراد منه، وقد أفادت الواو هنا الترتيب، فالتلاوة تطهير للنفس، والتزكية تؤكد ذلك، وتزيد طهر النفس، ونقاءها ،ثم يأتي التعليم، فيتربع على صفحة القلب، وينمي العقل، ويرشد السلوك والفكر، فتنشأ النفسُ سويةً، مستقيمة، لا تحيد عن الحق، ولا تميد، والفعل (يعلِّم) وارد بالمضارع الذي يفيد الاستمرار، والأزلية، فشأن الرسول أن يعلمنا: حيًّا وميتًا، حيًّا بمواقفه، وردوده، وتقويمه للسلوك، وميتًا بسيرته العطرة، وتعليماته المباركة، و(الكتاب) هنا معرف بأل الكمالية، أو أل العهدية الذهنية، فالكتاب هو الكامل في كتابته، والتام في تسجيله، دون أيِّ تحريف، وهو الكتاب الذي في ذهن كل مسلم ومسلمة، يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فلا يحتاجون إلى أن يقال لهم: إنه القرآن الكريم، فـ(أل) هنا إما أن تكون كمالية، تفيد كمال الصفة له، وإما أن تكون عهدية، أي: الكتاب المعهود في ذهن كل مسلم أنه القرآن الكريم المكتوب، والموجود بين دفتي المصحف الشريف، فهو كناية عن موصوف هو القرآن الكريم، وقوله:(الحكمة) كناية عن السنة المطهرة، سنة الرسول: القولية، والفعلية، وكل ما تركه لنا من كمال، وجلال، كله داخل في معنى الحكمة، والحكمة هي وضع الشيء في نصابه بكل اقتدار، وتمكن، ونزوله في محله بكل دقة، ويقين، ثم يأتي الختام الجليل:(وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)، أي: أنهم كانوا قبل بعثته المباركة في ضلال واضح، وغواية ظاهرة، وبُعْدٍ عن الله كبير، والواو يمكن أن تكون قسمية، أو استئنافية، ونرجح الاحتمال أو التوجيه الأول، وهو أنها قسمية، أي: وعزتي وجلالي إنهم كانوا قبل ذلك في ضلال مبين، و(إنْ) مخففة من الثقيلة بدلالة دخول اللام الفارقة (لفي ضلال مبين) دخولها لتفرق بين (إن) المؤكدة المثبتة أخت أنَّ التي خُفِّفت، و(إنْ) المخففة أصلا التي تنفي، (مثل: إنْ أنت إلا نذير، إنْ هو إلا وحي يوحى)، وهو أسلوب توكيد قد تضمن ثلاثة مؤكدات: القسم، ودخول (إنْ) التي خُفِّفت بعد تشديد، واللام المزحلقة الواقعة في جواب القسم، والقسم يكون واردًا لبيان حقيقة المقسم عليه، وأنه كان يومًا ما واقعًا حاصلًا في دنيا الناس، والفعل الماضي:(كان) يدل على بُعْد الزمن، وأنه كان بعيدًا جدًّا، ويؤكده شبهُ الجملة قبله (من قبلُ) أيْ: من قبل ذلك، حيث حذف المضاف إليه، وضُمَّتِ اللام (من قبلُ) إشعارًا بأن مضافًا إليه حذف، ونوي معناه، أيْ: من قبل ذلك، أي: من قبل من الله وبعثه محمدًا (صلى الله عليه وسلم) رسولًا، واللام هي اللام المزحلقة، وفي الوقت نفسه هي اللام الواقعة في جواب القسم، إن أخذنا الوجه الإعرابي القائل بأن الواو الأولى في (وإن كانوا) هي واو القسم، واللام للتوكيد، واستعمال (في) يفيد الظرفية، وكأنهم قد انظرفوا في الضلال، ودخلوا فيه، وشملهم، واحتواهم في بطنه، فهم منغمسون فيه، وقد عمَّهم الضلال من كل مكان، وانغلقت عقولُهم عليه، وانماعت سلوكياتُهم، وعاشوا ضالين، يضربون غوايةً في كل مكان، ويرتكبون كلَّ ضلال، وتنكير (ضلال) يبين تشعُّبه وأنه كان ضلالًا مركبًا، ومتشعبًا، ومتداخلًا، وفيه كل أنواع الضلال، ثم إن كلمة (مبين) هي اسم فاعل من الفعل الرباعي:(أبان)، فكأن الضلال نفسه صار فصيحًا يُبِينُ عن نفسه، فهي هنا قد وردت على سبيل الاستعارة المكنية حيث شبه الضلال بإنسان فصيح، يُمكِنه أن يتكلم عن نفسه، ويفصح عما في ضميره، وتنكير (مبين) هو إشعار بأنه يمتلك أداة البيان، ويعرف كيف يظهر، وكيف يبدو، فهم كانوا في ضلال واضح وضوحا يفصح عن سلوكهم، وتعاملاتهم، وهو في الوقت نفسه كناية عن بلوغهم شأوًا بعيدًا في الضلال، والشر، والأذى، مما استدعى بَعْثَ النور والخير، والحق والهدى؛ لينقذهم مما هم فيه من الضلال، والغواية، والشر، والإحن، وارتكاب كلِّ ألوان الضلال، وأطياف الشرور، وأصناف الفجور؛ الأمر الذي عبَّر عنه القرآن الكريم بأنهم (كانوا في ضلال مبين)، بتلك الكناية الضخمة التي ترسم أوضاعهم كلها: ثقافية، ودينية، وسلوكية، وفكرية، وأخلاقية، وكلها سوء في سوء، ومكر، وتبييت، وآثام وأوجاع، بحيث وصلوا إلى جسد مترهل، كله أمراض اجتماعية خطيرة، تودي بالحياة والأحياء، فجاء الرسول الكريم منةً من الله، ونعمة، وفضلًا، ورحمة فقال الله ـ جل جلاله ـ تلك الآية التي بيَّنتْ مكانته ومنزلته، وأبانت عن سموه عند ربهن وحبه عند المؤمنين به (صلى الله عليه وسلم)، حقًا حقًا، وصدق الله العظيم:(لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ).