د.جمال عبدالعزيز أحمد:في شهر النور، شهر مولد الرسول، شهر ربيع الأول الذي ينيرنا كل عام، ويهل علينا بخيره وضيائه، تُضَخُّ في قلوبنا دماءٌ جديدة، دماءُ الحب، والاتباع، ونبض الصدق، وحسن السير على خُطاه الشريفة، وتعاهُد على نشر سُنَّته، والذود عن حياض سيرته، ومسيرته، ونستحضر تلك الآيات التي نزلتْ في تزكيته، والتي تنهض دومًا بين أعييننا، ونزلت في حقه الشريف وحده، وما نزلت في حق أحد إلا شخصه الكريم، ويحلو لنا أن نكررها، ونتذوق معناها، ونعيش في جمال دلالتها، وكمال مرادها، وجلال مبانيها، وبهاء مراميها، ومنها قوله تعالى:(ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ) .. هي آية ذُكِرَتْ في معرض الدفاع عنه، وذكْر محاسنه، وبيان مكانته عند ربه، حيث قال فيها:(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ).هذه آية قرآنية وردتْ في أسلوب قسم، وهو في الأصل جملة اسمية، فالمقامُ مقامُ قسم، والله ـ جل جلاله ـ لا يقسم إلا على أمر عظيم، له مكانته، ومنزلته، فهو يُقسِم بذاته العلية على أنه ذو خلق عظيم، فأول توكيد في الآية هو القسم الذي يتكون من ثلاثة أقسام: الركن الأول حرف القسم (الواو)، والركن الثاني المقسم به (وهو الله تعالى)، وقد حُذِفَ من التركيب للعلم به، ولعدم نسيان المؤمن ربه، وأنه هو الذي يُقسِم، أيْ: وعزتي، وجلالي، وقدسيتي إنك لعلى خلق عظيم، والركن الثالث المقسم عليه، وهو جملة جواب القسم (إنك لعلى خلق عظيم)، ويأتي المؤكد الثاني هو الحرف الناسخ (إن) الذي يفيد عمق التوكيد، وتقرير المعنى في سويداء القلب، وتربُّعه على صفحة الفؤاد، ثم جاء بضميره (صلى الله عليه وسلم) وهو الكاف التي تفيد الخطاب، وهو لونٌ من ألوان القصر الذي يعني أن يكون المعنى: إنك أنت وحدك، لا يشاركك في ذلك أحد من عبادي، من يوم أن خلقتُ الخلق إلى يوم يبعثون لا يكون مثلك في الخلق العظيم أي إنسان مهما كان، وكأنه يخاطبه كفاحًا، وفيه كناية عن التشريف، والتكريم، والتبجيل لشخصه الكريم، فمن يخاطبه الله بذاته العلية هو المقرب المحبب، ومن يخصه الله بضمير المخاطب كيف تكون مكانته، وكيف تُتَصَوَّرُ منزلته، ثم يأتي المؤكد الثالث، وهو اللام المزحلقة التي زُحْلِقَتْ إلى الخبر حتى لا يجتمع مؤكدان على مؤكد واحد، لأن (إنَّ) تؤكد، وقد دخلت على الاسم (الضمير المخاطب)، واللام كذلك تؤكد، وكان من المفترض دخولها على الكاف نفسها؛ لكونها لام ابتداء، ولكنَّ اللغة الحكيمة لا تجيز اجتماع مؤكِّدين في مكان واحد، متتاليين على مؤكَّد واحد، فَرَحَّلَتِ اللام إلى الخبر، وأدخلت (إنَّ) على اسمها، ويدل ذلك على مزيد تأكيد، وتعميق للمعنى، وتقوية وتثبيت للمضمون في صدر، وقلب، وحس، ووعْي، وذات كلِّ مؤمن، ومحب للرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، واستعمال حرف الجر(على) الذي يفيد العلو، والسمو، فكأنَّ الخلق جميعا في ذلك دونَ الرسول الكريم، والرسولُ يعلو كل خلق عظيم، ويسموه، نقول مثلًا:(الكتاب على المكتب)، أي أنه فوقه، وأعلى من مستواه، و(فلان علا على فلان في الدرجة والمكافأة)، أيْ: فاقه، وكان فوقه منزلةً، ورتبةً، فالخلق العظيم دونه (صلى الله عليه وسلم) وهو فوقه، وهو كناية عن التمكن، والإحاطة، والاعتلاء الشامل، والتميز التام والكامل، وتنكير(خلق) يعني: الشمول، والعموم، فكلُّ خلق عظيم ـ على كثرته من الصدق، والكرم، والرقة، وسعة الصدر، والتعاون، والمحبة، والرحمة، والعفو، والتسامح .. وغيرها ـ الرسول في كل ذلك أعلى منها منزلة، وأكرم مقاما، وأسمى مكانا، فالتنكير يفيد في أصل وضعه العموم والشمول التامَّ، وكلمة (عظيم) صفة مشبهة، والصفة المشبهة تفيد ثبوت الوصف لصاحبه على الدوام، والاستمرار، فالعظمة ثابتة في حقه، ومستمرة إلى يوم الدين، كما أنها نكرة، فتشمل كل جوانب العظمة، ومناحي الرفعة، والمنزلة، فالكلمة أساسا تفيد التبجيل، والتعظيم، وهي منكرة لإفادة العموم، كما أنها صفة مشبهة تفيد الأزلية، والسرمدية، والدوام، والاستمرار، وكل ذلك قد جاء في إطار القسم من الله الذي يعني الاهتمام، والتوقير، والتَّجِلَّةَ، والإكبار، فهذه الآية على قلة عدد كلماتها إلا أنها تضمنتْ عدة أمور، منها أربعة مؤكدات هي: القسم، وأنها جملة اسمية، ووجود (إنَّ)، ووجود (اللام)، كما دخلها الحرف (على) الذي أضاف سمو المكانة، وعلو المنزلة، ودخلتها الصفة المشبهة التي تناسب جلال مكانته، واستمرار وصفه الشامل والكامل بالخلق العظيم، كما أدَّى التنكير وظيفتَه التربوية، والبلاغية، والبيانية، فأضاف جمالا، وزاد الوصف كمالا، وأضفى على شخصه الشريف مهابةً، ووقارا، من خلال ألفاظ الآية الكريمة، فنحن لم نأت من عندنا بشيء إلا أننا وقفْنا أمام كلماتها منبهرين، وبين يديها حامدين لله، وشاكرين، حيث شهدنا هذه المكانة العظمى، والمنزلة الكبرى التي اتضح لنا بعضٌ من جوانبها، من خلال النظر، والوقوف أمام معطيات الألفاظ، وما تهدف إليه من بيان منزلة الرسول الكريمة عند الله، ثَمَّ عند جميع المؤمنين به، والمسلمين على هذا الكوكب المتسع الكبير، فلو تأملت الآية، وعايشتها وتمعَّنْتَ في ألفاظها، وتركيبها لعرفْت كيف نهضتِ اللغةُ، وقواعدُها، ومعطياتُها في وصف مكانته، وبيان منزلته، وإيضاح قدره، وكريم مقامه صلى الله وسلم وبارك على صاحب الذكرى الشريفة، وعلى آله، وأصحابه أجمعين، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وكل عام أنتم بخير.✽ كلية دار العلوم ـ جامعة القاهرة - جمهورية مصر العربية[email protected]