نجوى عبداللطيف جناحي:
مع بداية الثمانينيات كثر نشاط الأسر المنتجة، وبدأت الدول تركز على تشجيع المشاريع المنزلية. والحقيقة أن الإنتاج المنزلي ليس أمرا مبتكرا، فمنذ العصور القديمة يشترك جميع أفراد الأسرة في الإنتاج المنزلي في سبيل تحسين مستوى المعيشة، لا سيما في المجتمعات الزراعية، فترى المرأة في منزلها تهتم بصناعة الأغذية كصناعة منتجات الألبان، وتجفيف الفواكه، وصناعة الصلصات وأشهرها صلصة الطماطم، وصناعة المخللات، ويكون لربة المنزل الدور الرئيسي في هذا الإنتاج في حين يساعدها باقي أفراد الأسرة. كما أن خياطة الملابس، وصناعة الحلي، وصناعة الخشبيات كصناعة الصناديق الخشبية، وبعض قطع الأثاث الخفيفة، ناهيك عن صناعة الأواني الفخارية؛ كل هذه الصناعات بدأتها الأسر كصناعة منزلية، ويمكننا القول إن الإنتاج المنزلي هو النواة الأولى لظهور المصانع، حيث تبدأ الأسرة بصناعة المنتج من المنزل باستخدام أدوات بسيطة وهي الأدوات المتاحة في المنزل، ولكن تجتهد بعض الأسر لتطور هذا الإنتاج، وتستعين بأجهزة حديثة في سبيل زيادة كمية الإنتاج أو تقليل الجهد المبذول في صناعته، ومن ثم يتحول الإنتاج المنزلي تدريجيا إلى مصنع، ولعل أشهر هذه التجارب صناعة الحلوى مثل الحلوى البحرينية، والحلوى العمانية حيث بدأت بإنتاج منزلي لتتطور وتتحول لمصانع، ومن ثم إلى حرفة وطنية أصيلة تكون جزءا من ثقافة تلك الشعوب حتى أصبحت تلك الحلوى بغية السياح ووجهتهم، ومن تلك الصناعات التي تحولت من إنتاج منزلي إلى صناعي: صناعة المخللات، وصناعة الخزف والفخار وغيرها.
والواقع أن الإنتاج المنزلي، والذي يستهدف تحسين دخل الأسرة جزء من ثقافات الشعوب بأسرها، فمثل هذا النشاط تجده في جميع المجتمعات وعلى مر الأزمان، ولا نجد اختلافا بينها إلا في المنتج، وطريقة إنتاجه، ولكن تتشابه طريقة التسويق، فالأسرة تسوق لمنتجها عن طريق التواصل المباشر مع الأهل والأقارب والجيران، حتى تصبح الأسرة معروفة ببيع هذا المنتج وربما تسمى الأسرة باسم تلك الصناعة التي اشتهرت بها، وطريقة أخرى هي عن طريق البائع الجوال، حيث يتكفل أحد أفراد الأسرة بالتجول بين الأحياء لتسويق المنتج.
وظلت المجتمعات تحافظ على هذه السمة لديها وهي الإنتاج المنزلي على مر الأجيال والعصور، حتى أصبحت ضمن خصائص المجتمعات، وما زالت هذه السمة موجودة بين الشعوب على الرغم من النهضة الصناعية السائدة في العالم، وانتشار المصانع، وتطور منافذ التسويق، إذ ظهرت المحلات التجارية، والمجمعات التجارية وغيرها، إلا أن هذا التطور لم ينافس الإنتاج المنزلي، فالإنتاج المنزلي يتصف بتميز المنتج عن السلع المتاحة في السوق، وندرته، وقربه من ذوق المستهلك، ناهيك أن التسويق عن طريق الترويج بين الأهل والمعارف له فاعليته باعتباره يتأثر بشكل مباشر بالعلاقات الاجتماعية والإنسانية. بل على العكس نجد أن الصناعة المنزلية ازدادت انتشارا، بل شارك باقي أعضاء الأسرة بفاعلية وجدية، فلم تعد ربة المنزل هي العنصر الرئيسي في هذا المشروع، بل نلاحظ دخول فئة الشباب في هذا المجال، سواء ذكور أو إناث، فأبدعوا في منتجاتهم، وابتكروا منتجات جديدة تواكب العصر مثل إنتاج البرامج الإلكترونية وتطبيقات الهواتف النقالة، وشاعت بين الشابات تصميم الملابس، كما اتجهوا لتقديم الخدمات مثل رسم المكياج، وتصفيف الشعر، كما وظفوا الإعلام الاجتماعي لتسويق منتجاتهم وأبدعوا أيما إبداع، ولم يقتصر الإنتاج المنزلي على الأسر المحتاجة فقط، بل دخلت هذا النشاط الأسر المقتدرة أيضا، ليس طلبا للرزق، أو رغبة في تحسين مستوى المعيشة، بل شغفا وحبا في هذا العمل، ورغبة في استثمار وقت الفراغ في نشاط يعود عليهم بالنفع والربح.
وفي تقديري أن انشغال الأسر بالإنتاج المنزلي يظل شائعا في المجتمعات على اختلاف الظروف الاقتصادية، إذ من الصعب أن نجزم أن الإنتاج المنزلي يزدهر في مرحلة الأزمات الاقتصادية أو العكس، بل هو خاصية في المجتمعات وجزء من ثقافتها. وفي تقديري أن هذه الثقافة (ثقافة الإنتاج المنزلي) تُعد من الثقافات التي يجب أن نتمسك بها في مجتمعاتنا، ونشجع عليها لا سيما فئة الشباب، وأن نوجه تلك الأسر للاستفادة من موارد البلاد في إنتاجهم المنزلي.
ولعل من الصناعات المنزلية التي تحتاج لتشجيع هي (تحويل الحديقة المنزلية إلى مشتل منتج) فقد استوقفتني تجربة إحدى النساء في مملكة البحرين وهي (أم رياض)، التي استغلت المساحات المتروكة في منزلها لتحولها لمشتل منزلي ينتج الشتلات، والخضراوات، وبعض أنواع الفواكه، وبعض أنواع الأعشاب لصناعة المشروبات مثل الشاي الأزرق، والزعتر البري وغيرها حيث تقوم ببيعها، فحولت حديقتها إلى مشروع منزلي منتج، كما قامت باكتساب خبرات واسعة في إدارة المشاتل، وخصصت زاوية لطرح برامج تدريبية في مجال الزراعة المنزلية لربات البيوت، فحولت هذه الحديقة المنزلية إلى مشروع مربح، ناهيك عن شغلها لوقت فراغها في نشاط ممتع ومفيد وله مردود، كما أن هذا النشاط ساعدها على تحقيق ذاتها، وإثبات نفسها في المجتمع، فقد صنعت قصة نجاح متميزة. وكم أتمنى انتشار المشاتل المنزلية كمشروع أسري مربح في مجتمعاتنا، وفي تقديري أنه يمكن استفادة الأسر أصحاب المشاتل المنزلية من تجربة سلطنة عمان في الزراعة؛ فعمان الخير تتميز بتنوع منتجاتها الزراعية والتي يمكن نقلها واستزراعها في باقي دول الخليج، كما يمكن الاستفادة من خبرات العمانيين المتميزة في مجال الزراعة، فجسر الوصل ممدود بين الشعبين العماني والبحريني، جسر من الود لا جسر من الحجر... ودمتم أبناء قومي سالمين.


كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية
متخصصة في التطوع والوقف الخيري
[email protected]
@Najwa.janahi