متابعون: هناك خلل في المفهوم العام للمثقف ولا بد من أدوات ضبط للفضاء الإلكتروني
كتب ـ خميس الصلتي:
يرى البعض أن ثمة تراجعا في الثقافة الرصينة، مع التحول الى الثقافة السطحية المستهلكة السريعة، والتي لا تمت الى الوعي بصلة، خاصة في الوقت الراهن في ظل الانفتاح المعلوماتي وتعدد الوسائط المعرفية. ترى كيف يرى القارئ المتابع هذا الجانب؟ وما هي الحلول التي من الممكن وضعها لمعالجته؟.. جاءت الإجابات في أغلبها متوافقة مع الفكرة العامة حتى وإن اختلفت التوجهات ..

مبادئ وقيم
في بداية الأمر يقول مبارك بن محمد السيابي: نستطيع القول إن الثقافة الرصينة هي كل نتاج فكري، سواء كان ماديا او معنويا، مع المبادئ والقيم التي يمتلكها كل من المجتمع والفرد، وعندما يعي المجتمع والفرد أبجديات الثقافة فإنها هي السد المنيع والمصد الأول لأي اختراق سلوكي ويعبر عن الإرث التاريخي المتراكم للحياة، كما أن الثقافة هي التي تحيد الانسان والمجتمعات الحرة عن الانزلاق في براثن الفساد وتبني الانسان الصالح فيكون الإضافة التي تزيد للحياة النماء والتطور وتزيد وتيرة العطاء بأنواعه. لكن البعض يتصور أن الثقافة هي كمية المعلومات التي يكتسبها الفرد ويختزلها في ذاكرته ويسردها في كل جلسة ليظهر لمن حوله بأنه المثقف البارع ولكن في أي اختبار للمبادئ والسلوكيات تجد بأنه فقير ليس له من الثقافة الا اسمها، أما المعاني الحقيقية فهو عنها بعيد كبعد المشرقين. فالغالب أن الثقافة ربطت بأصحاب الإنتاج الفكري وبالأكاديميين وحملة المؤهلات العلمية ومن يعايش ذلك الوسط ولكن تجد هناك من هو ملوث فكريا في المقابل تجد الانسان البسيط الذي يحيط خبرا بكل مكونات الحياة وكيفية التعامل مع الظروف الحياتية ويتصرف بفكر ومنطق حي واع يستوعب مجريات الظروف ونوائب الدهر فهذا هو المثقف الفعلي. في الواقع أن الزخم الكبير للحياة المتسارعة والنتاج الحديث لوسائل التقنية والتبادل المعلوماتي وتقاذف الافكار بين المجتمعات وسرعة انتشارها جعل العالم قرية صغيرة ومن السهل ان يتبنى الانسان الثقافة واستيرادها بجميع سلبياتها وافرز ما يسمى بالثقافة السطحية وانتشر ما يسمى بالانفلات الثقافي وراج أكثر بوسائل التواصل الاجتماعي الحديثة التي جعلت متصنع الثقافة هو في المقدمة.
لمعالجة هذا القضية لا بد من الرجوع الى المبادئ والقيم التي تغرس في النشء، وسبر أغوار التاريخ للانطلاق نحو آفاق أوسع للثقافة الحقيقية التي تضيف النافع والمفيد، وعلى جميع المؤسسات والمجتمع في مقدمتها أن تعنى بالثقافة وكل انتاج مادي أو معنوي رزين في المجتمع.

المثقف الحقيقي والمثقف الزائف
وفي الشأن ذاته وحول العديد من التساؤلات تقول مفيدة جاء بالله : في ظل التحولات الراهنة والسريعة التي يشهدها كل من الفرد والمجتمع، والناتج عن توجه المنظومات على اختلافها نحو العولمة، ومع الانتشار غير المسبوق لمواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت المعلومة في متناول الجميع، وقد أصبحت ظاهرة التنظير وإبداء الرأي كذلك أمرا متاحا للجميع، بما في ذلك عامة الناس من ذوي الاطلاع البسيط على حقائق الأمور وخلفياتها. كل هذه العوامل مجتمعة، فضحت ،وعلى مدار سنوات، زيف بعض المثقفين وطغيانهم على مختلف الساحات الثقافية والأدبية.
وهنا تتساءل مفيدة : كيف نستطيع التفريق بين المثقف الحقيقي والمثقف الزائف؟
المثقف الحقيقي له هوية عقلية قادرة على التجدد والصمود في الآن نفسه، والمقصود بالتجدد هو إيجاد آليات للتفكير غايتها تطوير الواقع وفهمه واستيعابه، متبعا في ذلك ومستأنسا بقواعد الاستدلال. وأما الصمود فهو أن يحافظ الفرد على هويته الثقافية والفكرية التي لا يمكن عولمتها لأنها بمثابة الهوية التي تميزنا عن الآخر، فلا يتأثر بالموجات العابرة ولا يشترى لغايات معلومة أو غير معلومة. أما المثقف المزيف فإنه سيظل يكرر ما قيل على مواقع التواصل الاجتماعي، وسيتوقف فكره عن العمل عند توجيه تساؤل له أو انتقاد لأنه فاقد للحجة والدليل، ولا يملك مهارة وآلية الدفاع عن فكره واعتقاده. أما عن آليات التعامل مع هذه الظاهرة، فإنه لا بد من توعية المجتمع وخاصة الفئة الناشئة، وذلك لسرعة تأثرها ولميلها لما هو متداول وجاهز، لا بد من توعيتها بأن إعمال العقل والرجوع إلى المصادر أمر ضروري للتفريق بين أصناف المثقفين، والتوعية تكون عن طريق إقناعه بأهمية التعامل مع الكتاب كمصدر أول ورئيس للمعلومة لاكتساب الحجج وآليات النقاش والتحاور، كما أن تنمية ملكة النقد والانتقاد تعد واحدة من أهم المقاييس المعتمدة لتنشئة جيل واضح الهوية، قادر على تحديد خيارات المستقبل وتحدياته.

ثقافة استهلاكية
ويشير علي بن خلفان الصلتي في شأن الثقافة الرصينة وما آلت إليه: الثقافة كانت ولا زالت سمة للفرد والمجتمع وبمدى التطور والنمو الثقافي تنهض المجتمعات والحضارات الإنسانية وتعلو قيميا وترقى في سُلّم المُثُل الإنسانية، لكن مع الأسف نلاحظ في وقتنا الحالي منحى آخر للثقافة وأصبح اتجاها سائدا في أغلب المجتمعات.
إذ أننا نجد الثقافة اتجهت إلي الثقافة الاستهلاكية البسيطة او الشعبية السائدة في معظم جوانبها فأصبحت الاهتمامات الفكرية او الثقافية تركز على الشكل دون العمق وهذا الطابع أوجد لها مظهرا واحدا سطحيا في جميع مجالاتها وفنونها المختلفة مقابل التنحي والتخلي عن أصولها المتينة وفروعها الحيّة سواء المادية منها او الإنسانية. ويضيف الصلتي: والحقيقة أن مصيبة الثقافة الاستهلاكية الشكلية أنها توجد وعيا زائفا لدى الشعوب والمجتمعات بما فيها من محدودية التفكير والبعد عن التحليل والتركيب والاستنباط العلمي الذي يربط الفرع بالاصل ويبني الفكر والثقافة وفق تسلسل قائم على خبرات ومعارف متصلة ومترابطة ومستمرة. ومن مظاهر الثقافة الاستهلاكية ما يركز عليه الناس الآن من الاهتمام ببناء معارفهم بكل ما يخص الشكل كالملابس والمجوهرات والسيارات والمقتنيات الأخرى أو صيحات الموضة المختلفة ظنّا منهم أن متابعة تفاصيل هذه الأشياء هو ما يجعلهم في أعلى هرم المعرفة والنضوج الفكري والحقيقة أنهم يعيشون وفق وعي زائف كليا فهم هنا تبعوا الغث وتركوا السمين من علوم الثقافة المتنوعة والأصيلة. وبهذا تعيش الشعوب والمجتمعات عُمي القلوب والعقول وجمود الألباب والأذهان لأن نتيجة هذا التوجه ليس على المدى القريب فحسب وإنما على المدى البعيد من حيث تأثيره جذريا على خواص المجتمعات وعلى الأجيال الناشئة والشباب بما في ذلك من اختلاف في انماط التفكير والسلوك وانتكاس منظومة السلوك والتفكير رأسا على عقب. فمع هذا التوجه الخطير.. مهما بلغت الشعوب والمجتمعات من الثراء ستكون فكريا وسلوكيا في الثرى.

شهرة زائفة
ولا تبتعد آلاء بنت أحمد الجامعية عن الرؤية العامة حيث تقول: إن اضمحلال مفهوم الثقافة من وجهة نظري قد يعود لأسباب عدة وربما بدأت في فترة بعيدة في الوقت الذي قننت فيه المعرفة بالرقابة على الكتب والمكاتب وحتى المواقع الإلكترونية، ومنها اصبح الأفراد يكتسبون من المعرفة ما يسمح فقط به، وكثير مما يسمح به مؤطر بإطار الدين (الحلال والحرام) والعادات والتقاليد وقد لا يخفى على الجميع تأثر المعرفة والثقافة المؤطرة بالصحوة التي تُرضخ الفرد للضغط التأطير (ربما لاشعوريا) حتى لا يتعرض للنقد كونه مختلفا. وهو ما نشاهده من المعاداة للحركات الثقافية والتوعوية رغم انها عالمية الا انها عند وصولها لمجتمعاتنا العربية والخليجية تحديدا تتعرض للنقد الشديد والتنكر وربما التكذيب لأنها دائما تقولب في الأطر السابقة المسموحة مجتمعيا مثل : الحركة النسوية وحركة الوعي بالأمراض النفسية والعنف. كون أن هذه الحركات تدعو لتغيير العادات. السبب الآخر والمنتشر كثيرا أننا كمجتمعات عربية واسلامية مراجع ثقافتنا حتى بعد انفتاح الانترنت هي اسلامية عربية (لا أعمم) ولكن نادر جدا أن يكون مرجع الأفراد خصوصا في النقاش لمراجع غير عربية وغير اسلامية وخصوصا التاريخية. كون الاعتزاز بالإرث التاريخي الاسلامي هو نقطة بداية التاريخ ولا يوجد اعتراف بالتاريخ السابق له كونه يعد جاهليا. وتضيف الجامعية : مؤخرا أصبح المفهوم العام للمثقف هو من كتب ويصف كلاما منمقا في مواقع التواصل الاجتماعي ويقرأ رواية ويحتسي القهوة ولا ألوم هنا الشخص نفسه ولكن السرعة التي أحدثتها هذه المواقع في النشر والشهرة (الزائفة) وحب الظهور في أي نقاش سبب كبير فكل شخص الان يستطيع أن يكون صحفيا او اعلاميا بتوفر هذه الوسائل حتى وان كان (زائفا). واخيرا ربط مفهوم الثقافة بمؤهل الشخص الجامعي او دراساته العليا التي تجعل من بعض الأشخاص يظن أنه ملم بكل المواضيع ويستطيع أن يحاور في أي موضوع كان لا سيما وأن الجمهور يعطيه هذا الحق!. إن كون الشخص متخصص في مجال معين لا يعني بالضرورة أنه مثقف وواع بشتى المجالات.

صعوبة في القياس
ويقترب سلطان ثاني البحري من هذا الطرح ليقول : قد يكون من الصعب جدا قياس مستوى الثقافة، هل على مستوى النخبة أم قياسا بالوضع العام، لكن وبلا شك أن لكل زمان ومكان ثقافة متغيرة، وإلا لما كانت ثقافة أصلا لو أنها ثابتة. مؤخرا وفي خضم السرعة أصبح التعاطي مع المعرفة والتثقف مختلفا تماما، صار من النادر أن نسمع عن أولئك الذين يغرقون بين أمهات الكتب والمراجع بحثا عن المعلومة أو لسلوك درب معرفي وعر، لكن السرعة ذاتها والحاجة لها سهلت وصول الناس للمعرفة وللمعلومة ومن مصادر كثيرة مختلفة، اختصارا هي ملامح الوقت المعاصر. في مقابل السهولة للوصول إلى المعلومة وتكوين وعي واسع بالعالم من حولنا فقدنا قيمة الصبر في البحث والتقصي، كذلك صار النفس الطويل في القراءة والكتابة مفقودا، لكنني ومن وجهة نظر شخصية أجد أنها مرحلة لابد منها، مرحلة اختبار لكل ما كان ورسم لمرحلة قادمة لها شكل جديد مختلف، لكن النقد لا ينتهي حيال الحاضر، وهو سمة بارزة ونسمعها كل يوم، بينما يعد شكل الثقافة حاليا انعكاسا لواقع وظروف المرحلة، لذا من الصعب جدا القول إن هذا الشكل صحيح والآخر خاطئ، لكن المفقود ربما هو حلقة التواصل بين الأجيال الثقافية المختلفة.

دور رقابي
وتؤكد أمل بنت عبدالله المعمرية أن الثقافة تلعب دورا هاما في رقي المجتمعات فكريا وأدبيا وأخلاقيا وإنسانيا. لذا لابد من الاهتمام بالجانب الثقافي من قبل جهات الاختصاص الحكومية ومبادرات مؤسسات القطاع الخاص، خصوصاً المؤسسات المعنية بالحركة الثقافية، وللوقوف على هذا الجانب يترتب علينا قراءة الحضارات السابقة وما أحرزته من تفوق فكري نتيجة الاهتمام ببناء الانسان للجانب الثقافي. وقد تكون الأسباب التي أدت الى ضحالة الثقافة لدى افراد المجتمع تتمثل في محدودية البرامج الإعلامية المعنية بالثقافة وغياب التأسيس التربوي عند النشء للجانب الثقافي، وعدم استغلال وتوظيف وسائل التواصل الاجتماعي إيجابيا بما يخدم الجانب الفكري الثقافي للمجتمع، وضعف المحتوى الالكتروني المتداول بين افراد المجتمع لعدم وجود لوائح تنظم نشر مثل هذه المحتويات. في المقابل نتمنى أن نجد تنظيما لفعاليات تعنى بالجانب الثقافي خاصة في المدارس، كمسابقات ثقافية وأدبية ووجود دعم مالي وفني من قبل المؤسسات العامة والخاصة للإنتاج الادبي الثقافي ودعم الدراسات والإصدارات، وتفعيل دور المؤسسات وفق اختصاصاتها (الدينية ـ الفكرية ـ الادبية – التربوية– التاريخية) في نشر المحتوى الالكتروني بين أفراد المجتمع في مختلف وسائل التواصل الاجتماعي، بما يشبع رغبة المتلقي، على أن يتم مراجعة المحتوى من الجهات ذات الاختصاص؛ بحيث يعطي للمعلومة مصدر موثوق ومصداقية في الطرح. مع ضرورة وجود لائحة تنظيمية وقوانين لنشر المحتويات الالكترونية، خصوصاً داخلية المصدر، وتفعيل الدور الرقابي للمؤسسات الحكومية لمتابعة ورصد ما يتداول بوسائل التواصل الاجتماعي في المجتمع، واتخاذ كافة الإجراءات القانونية للمحتويات المسيئة للمجتمع، واستقطاب مفكرين وباحثين وأدباء لديهم تأثير في الجانب الفكري لمختلف الفئات العمرية، وإنشاء دور معنية بالثقافة المجتمعية، أسوة بدار الأوبرا السلطانية.