د. سعيد بن سليم الكيتاني:
كون المتعلم محور العملية التعليمية أصبح من المسلمات التربوية اليوم، فمنذ أكثر من قرن بدأت الدعوة في أوروبا إلى هذه النظرية، وكالعادة تلقفها العرب وغيرهم وأخذت تدريجيًّا تنتشر في الأدبيات التربوية إلى أن أصبحت مسلَّمة من مسلَّمات النظرية التربوية والتعليمية على كافة مستويات التعليم، وظهرت تعبيرات عديدة عنها في الخطاب التربوي الحديث مثل (المتعلم أولًا) و(التمحور حول المتعلم) و(التعلم الذاتي) و(المعلم مجرد موجه للعملية التعلمية/التعليمية) وغيرها من التعبيرات والشعارات المماثلة.
والجدير بالذكر هنا أن العلماء المسلمين قد سبقوا الأوروبيين في تطوير هذه النظرية وتبنيها، غير أننا كالعادة، قطعنا صلتنا بتراثنا التربوي والتعليمي كما قطعنا صلتنا بكافة مجالات تراثنا الفكري الأخرى، وانجرفنا بعد ذلك نحو كل ما يأتينا من الغرب وجعلناه المعيار والأساس لممارساتنا. نعم سبقنا الغربيين في هذه النظرية لأننا ببساطة كنا منذ قرون وما زلنا نقرأ في كتبنا التراثية عن مفهوم (طلب العلم) ونروي لأجيالنا المتعاقبة عن طلبة العلم الأوائل في الإسلام الذين كانوا يقطعون الفيافي والصحارى لهدف واحد فقط وهو الوصول إلى شيخ أو مفكر لأخذ العلم عنه.
هكذا كانت البداية، حبًّا فطريًّا وشغفًا وجدانيًّا شخصيًّا للعلم، والمبادرة الذاتية من قبل المتعلم نفسه لتحصيل العلم دون وجود مدارس نظامية ودون إجبار من الوالدين أو من الحكومات، فالمتعلم يقرر بنفسه أن يطلب العلم من منطلق قناعته بأهمية العلم، ويقرر بنفسه ماذا يتعلم، ويقرر بنفسه إلى أي شيخ وإلى أي جامع يسافر لتحصيل المعرفة التي يرغب فيها، فأنجب لنا التاريخ علماء جهابذة أفذاذًا، لم نعد نجد لهم نظراء اليوم، رغم كثرة مدارسنا وجامعاتنا وكلياتنا وشهادات الدكتوراه التي نحملها. إذا لم يكن كل هذا تمحور حول المتعلم وتعلم ذاتي والمعلم مجرد موجِّه للعملية التعلمية/ التعليمية فماذا يكون بالله عليكم؟
عودًا إلى تساؤل عنوان المقال، وحديثي هنا ليس فقط عن المتعلم في التعليم المدرسي الذي قضيت فيه معظم سنوات حياتي السابقة، بل عن التعليم الجامعي كذلك الذي أتشرف بالانتماء إلى قطاعه في مسيرتي المهنية في الوقت الراهن، ندَّعي بأننا ننظر إلى المتعلم على أنه محور العملية التعليمية، فهل ممارساتنا تثبت صدق هذا الادعاء أم تثبت كذبه؟ بعيدًا عن الخطاب التربوي السياسي الفضفاض الصادر عن أجهزة بيروقراطية سلطوية تنزل قراراتها من الأعلى إلى الأسفل، لننظر معًا إلى واقع المتعلم ـ سواءً في المدرسة أو في الجامعة والكلية ـ ذلك الواقع الذي نعيشه جميعًا كأولياء أمور أو طلاب أو مسؤولين سياسيين أو مخططين تربويين أو مربين ومدرسين، لننظر جميعًا عن كثب ما يحصل منذ التحاق الطفل بالمدرسة إلى تخرجه والتحاقه بمؤسسات التعليم العالي، ماذا يحصل له؟
أولًا: لم نعد نعلم الطفل في المنزل كما كان يفعل أجدادنا، لنغرس فيه حب العلم، فيعرف قيمته وأهميته، بل نغدق عليه الألعاب وحينما يكبر قليلًا نغرقه في برامج وسائل الإعلام المختلفة وفي مقدمتها التلفزيون الذي ضرره أكثر من نفعه، وحينما يحين الوقت يتم إرساله إلى المدرسة ليس وفق رؤية واضحة لما ينبغي أن يتعلمه، بل لأن ذلك عرفٌ سائدٌ في المجتمع، فكما أن جيراني يرسلون أبناءهم إلى المدرسة عليَّ أنا أيضًا أن أرسل إليها أبنائي! أضف إلى ذلك أن الأب والأم يعملان، وبالتالي من المناسب جدًّا أن يكون الأطفال في المدرسة للتأكد من استتباب الأمن في المنزل لحين عودة الوالدين!
ثانيًا: في المدرسة يتعلم الطلاب مواد دراسية لا ناقة لهم فيها ولا جمل! فقد حُددت نيابة عنهم من منطلق العرف أيضًا! ولكنه العرف الدولي هذه المرة! فلأن العالم يدرّس تلك المواد فلا بد أن تدرّسها عُمان أيضًا، لأننا جزء من العالم، نقول بأن التعليم عندنا يتمحور حول الطفل، غير أن الطفل لا يعرف شيئًا عن كيفية تحديد تلك المواد التي يدرسها ولا يدري شيئًا عن علاقتها بمستقبل حياته! وأذكر أننا خلال السنوات الماضية شاركنا في بعض الدراسات الدولية المقارنة ولم نحقق نتيجة مُرْضية، وكان أحد الأسباب عدم تضمن المقررات الدراسية العُمانية لبعض الموضوعات التي تدرّس في دول أخرى، فكان القرار إدراج تلك الموضوعات من أجل تحسين النتيجة، بغض النظر عن مدى حاجة المتعلم في السلطنة إليها!
ثالثًا: النظرية التربوية والتعليمية منذ الأزل وعلى مستوى العالم تنادي إلى أن تكون العملية التعليمية هرمية الشكل، تبدأ بقاعدة عرضية في الأسفل، حيث يتعلم الطفل مبادئ وأساسيات مختلف العلوم في المراحل الدنيا، على أن يتقلص عدد المواد الدراسية تدريجيًّا مع صعوده إلى أعلى الهرم ليتخصص في تخصص دقيق يستهويه ويعشقه، وهو ما يحصل في العديد من الدول ذات أنظمة تعليمية متطورة، بينما تأخذ العملية التعليمية عندنا شكل المربع! حيث يُفرض على المتعلم عددٌ هائلٌ من المواد الدراسية التي لا يفهم المغزى منها ولا يعرف ما علاقتها بما يريد هو أن يتخصص فيه بعد المدرسة!
رابعًا: قبل أن يفرغ من معاناة الصف الثاني عشر يُطلب منه أن يحدد ما يرغب التخصص فيه، وهو طلب حسنٌ ومحمودٌ بلا ريب، غير أن الأمر لا يقف على ذلك، بل يُجبر على ترتيب عشرات التخصصات حسب الأولوية لديه في نظام إلكتروني معقّد له الكلمة العليا في تحديد التخصص الذي سيدرسه الطالب! وكأننا انتقلنا في هذه المرحلة من التمحور حول الطالب إلى التمحور حول النظام الإلكتروني المعصوم الذي لا يخطئ ولا يسهو! وإذا أخطأ أو سها كان على الطالب لا على النظام أن يعاني ويشقى من أجل تصحيح الخطأ والتكفير عن السهو غير المتعمد!
خامسًا: يدعو الشرع الحنيف إلى المساواة بين الناس بغض النظر عن أية اعتبارات اجتماعية تميّز بينهم، والمساواة هو المبدأ الذي تنادي به المنظمات الحقوقية الدولية اليوم وهو كذلك المبدأ الذي ينادي به صراحة النظام الأساسي للدولة في السلطنة، ومع ذلك كله نلاحظ أن المؤسسات الحكومية المعنية تحرم بعض الطالبات الإناث من حقهن في البعثات الدراسية لتمنحها في طبق من ذهب للطلبة الذكور في ظل نظام الحصة أو ما يُعرف بـ(الكوتا)! الذي يتم بموجبه حرمان طالبة أحرزت نتيجة متقدمة وتقديم طالب ذي نتيجة متدنية عليها لمجرد كونه ذكرًا! فأين ذلك من كون المتعلم محور العملية التعليمية؟
سادسًا: إذا نجا المتعلم من كل ما سبق والتحق بالجامعة أو بالكلية يكون مصيره التعامل مع نظام يفترض أنه مهتم بالمتعلم، ويفرض على المؤسسات التعليمية تشريعات لحماية حقوق المتعلم، ويقدم للمتعلم مجموعة من الوثائق القانونية التي توضح حقوقه وكيفية الوصول إليها، وحينما تنظر بعض المؤسسات التعليمية المتعلم الذي يطالب بحقوقه غير النظرة التي يتمناها، فيضطر المتعلم للجوء إلى الجهات التشريعية، فإنه يجد نفسه في دائرة مغلقة بين الأطراف المعنية وهو خارج تلك الدائرة، وفي معظم الحالات تنتصر المؤسسة على الطالب، ويخرج الطالب من المعركة خالي الوفاض!
هذا غيض من فيض! فهل المتعلم عندنا هو فعلًا محور العملية التعليمية؟ أعتقد أنه قد آن الأوان للخروج من المألوف كما يقال وإعادة النظر في ممارساتنا من أجل طلابنا في المدارس والكليات والجامعات، لن نتمكن من بناء أجيال مستقبلية مختلفة قادرة على الإبداع والابتكار ما لم نترجم نظرية التمحور حول المتعلم ترجمة صحيحة، يكون المتعلم فيها بحق هو المحور، يسهم في اتخاذ القرار، وتُستثمر طاقاته بما يعود بالنفع عليه وعلى الوطن، عوضًا عن إهدار تلك الطاقات في صراع دائم ومزمن مع المؤسسات والمسؤولين والأنظمة... آن الأوان لأن نسمح للطالب بأن يدرس ما يرغب في دراسته، ليصبح مبدعًا معطاءً، وتصبح له حقوق حقيقية ويُعامل بإنصاف، لأننا يجب أن نكون قدوة للطالب وأن نطبق نظرياتنا تطبيقًا صحيحًا لنحظى بثقة الطالب.