نجوى عبداللطيف جناحي:الإنسان كائن اجتماعي بطبيعته، فهو يعيش في مجموعات اجتماعية مترابطة، ومن هذه المجموعات، الأسرة، العائلة، الحي، الوطن...إلخ، ولا يكتفي الإنسان بهذه المجموعات التي يجد نفسه منذ الولادة ينتمي إليها وهو جزء منها، بل ينشئ مجموعات اختيارية؛ أي ينقي أفرادها بنفسه مثل مجموعة الأصدقاء، وزملاء العمل والدراسة وغيرها. ويعتبر العيش والانتماء لمجموعة فطرة طبيعية في الإنسان، ومن يخرج من تلك الجماعات ويرفض الانتماء لأي منها فيختار أن يعيش وحيدا منفردا يعتبر سلوكا غير طبيعي (الانطواء).وعندما تعيش في مجموعة تنشأ بينك وبين كل فرد علاقات ومشاعر إنسانية قوية، وهذه المشاعر تخلق الترابط الاجتماعي والإنساني بين أفراد المجموعة، وبدون هذه المشاعر ينخرط عقد هذه المجموعة، مثل مشاعر الأمومة والأبوة والحب بين الزوجين وبين الأخوة مع بعضهم البعض، ولكن يحدث أن تتغير مشاعر أحد أفراد هذه المجموعة فيهجرها، كأن ينطفئ حب الزوج لزوجته، أو الابن لوالديه، أو الصديق لصديقة، بل وقد تتحول مشاعر الحب عند أحدهم إلى كراهية، فيهجرك وهو أقرب الناس لك مثل الأخ، الصديق، أو الابن أو الزوج، وهذا أمر ليس بغريب، فمن طبيعة نفوس البشر التغير، وقد قال الشاعر:وما سمي الإنسان إلا لنسيهولا القلب إلا أنه يتقلبافإن تغيرت مشاعر الحب عند من تحب وهجرك، سواء كان ابنا أو أخا أو صديقا أو زوجا، فلا تبتئس، فكن مهيأ النفس دائما لتقلب قلب من تحب، فقد يتركك، بل يهجرك، وربما يلقي بك في جب النسيان، أو يعاديك.فكن صلبا ولا تنكسر، فالانكسار لا يصلح الأحوال، ولا تترجى وتتوسل من هجرك ليعود إليك بالتوسل يضعفك، ولا تستعطف بنشر كلمات تعبر عن الشوق والألم والحرقة، في وسائل التواصل الاجتماعي، فذلك يقلل من قدرك فتقطع أمل عودة من يهجر.كن صلبا ولا تستسلم للآلام والآهات وجلد الذات ومحاسبة النفس، ولا تسلم عقلك لعواصف التساؤلات: لم؟!!! ولماذا؟!!! وحتى متى؟!!! وهل أستحق الهجر؟!!! بمشاعر الغضب، ومشاعر الهجر، ومشاعر الإحساس بالذنب، ومشاعر الحزن، ومشاعر الرغبة في الانتقام أحيانا، ومشاعر الرفض، ومشاعر الغل، ومشاعر التوهان، ومشاعر الارتباك، ومشاعر الشفقة على النفس، وعليك أن تتفهم بأن دوام العلاقة بينك وبين جميع الناس شبه مستحيل، وأن العلاقة الوحيدة التي تدوم هي علاقتك بالله. فانعم بقربك بربك تندمل جراحك. وحاول ألا تطول مرحلة الآلام التي تعيشها، فلا تزيد عن أيام معدودة فقط، فطول مدة الآلام يجعلك تصاب بالاكتئاب الذي يصل لدرجة المرض والقلق والانعزال، واضطراب في العمليات العقلية من تركيز وتذكر وحل مشكلات...إلخ، مما يؤثر على حياتك وتقل قدرتك وكفاءتك على إدارة المسؤوليات الموكلة إليك.كن صلبا، وتعود أن توجد البديل في حياتك، فعندما يهجرك إنسان ستفتقد خدماته التي كان يقدمها لك، وقد تفتقد المشاعر التي يغمرك بها مثل الحب، والحنان، والعطف، والمساندة النفسية وقت الأزمات، فعليك أن تعرف كيف تجد البديل وكيف تتعايش بدونه، وتذكر أن هناك الكثيرين يعيشون بقربك، وهناك الكثيرين ممن يحبونك، وما زال هناك الكثيرون يحتاجونك، ففي دنياك الكثير من الأحباب غير هاجرك، وخروجه من حياتك لا يعني نهاية علاقاتك الاجتماعية بكل من حولك.وكن صلبا فلا تنتقم واصفح، ففي صفحك سمو وتعالٍ، وفيه الدليل على أنك الأقوى وأنك قادر على تحمل هجره، فلا تطفئ آلام الهجر بالانتقام، ولا تنشر الإشاعات ضده، سواء في المجالس أو في وسائل التواصل الاجتماعي، بل تجاهله، وامضِ في بناء علاقاتك الاجتماعية الناجحة، فالتجاهل أقوى عقاب توقعه عليه.كن صلبا وابحث عن من يساعدك على ألم الهجر، فأنت تحتاج لشخص يعرف فن الاستماع، وقادر على الكتمان، فأنت بحاجة لأن تعبر عن مشاعر الألم، وتفكر بصوت عالٍ، وقد تحتاج لسرد قصة الهجر وأسبابها من منظورك، فعليك أن تتحدث مع شخص يعرف كيف يستمع لك، ويعرف كيف يعلق على كلامك دون استفزاز أو إثارة لجراحك أو لوم أو عتاب، والأهم أن يكون كتوما فقد تتلفظ في لحظات الألم بكلمات غير مناسبة فلا ينقلها لأي شخص.كن صلبا وتواصل مع الآخرين، واشغل نفسك بأنشطة جديدة مثل ممارسة هواية جديدة، أو الرياضة وخصوصا الرياضة الجماعية، أو في نشاط تطوعي لمساعدة الآخرين، واحذر كل الحذر من العزلة، فتقول ما روث ساكنهايم، رئيسة رابطة أطباء النفس في ألمانيا إن "الأمر يزداد صعوبة عندما يكرس الشخص نفسه تماما للطرف الثاني وتقل اتصالاته بالآخرين"، لذا يشعر هؤلاء الأشخاص بأن الانفصال دمر حياتهم تماما. لكن الأشخاص الذين يعيشون في دائرة اجتماعية نشطة يكون حالهم أفضل بكثير. لذا عليك أن تشغل نفسك بالتواصل مع الآخرين.كن صلبا ولا تضع نفسك في قفص الاتهام، واحرص على مكافأة نفسك بنفسك وعززها، كأن تشتري لنفسك هدية تحبها، وتسعد قلبك بها، وضع أزهارا في غرفتك، أو غيِّر تنسيق أثاث غرفتك، أو مكان جلوسك في الحديقة، وتأكد أن قوتك تأتي من داخلك، وأن قوتك في إيمانك بربك، وأن كل ما يحدث لك فيه خير وصلاح، وأكثر من قراءة سورة الكهف، ففيها قصص واقعية تعزز الإيمان لديك بأن كل ما يحدث لك هو قضاء من الله، وعليك بالرضا بهذا القضاء؛ فوالدا الطفل الذي قتله سيدنا الخضر عليه السلام، لم يكونا يعلمان أن في قتل طفلهما خيرا وصلاحا لهما، وأن الله سيبدلهما بخير منه. وتذكر الدعاء (اللهم آجرني في مصيبتي، واخلف علي كل غائبة بخير).كن صلبا وتعلم كيف تتعامل مع مشاعر الشوق، فمشاعر الشوق ملهبة حراقة، تضعف صاحبها وتوهنه، وكم حركت مشاعر الشوق أقلام الشعراء ففاضت بإبداعاتهم، وعلاج حرقة الشوق يكون بملء الفراغ النفسي بمشاعر أخرى تجاه شخص آخر ممن يحبونك كالأبناء أو الأصدقاء أو غيرهم، واطفئ أشواقك في سجودك، اطفئ أشواقك بدعائك وتضرعك لله، اطفئ أشواقك بالنسيان؛ فالنسيان نعمة من نعم الله علينا، فهو دواء لأصعب الجراح، فما دام قلبك يتقلب فأنت قادر على النسيان... ودمتم أبناء قومي سالمين. كاتبة وباحثة اجتماعية بحرينية متخصصة في التطوع والوقف الخيري [email protected] تويتر: @Najwa.janahi