د.جمال عبدالعزيز أحمد:
.. أما دور ابنه عبدالله بن أبي بكر فقد كان دورًا خطيرًا للغاية، وكان ثمنُ الاجتهاد فيه كبيرًا، حيث كان من الممكن أن يطاح برأسه لو اكتشف، أو عرف، وهو القيام بدور الاستطلاع، وعمل ما تقوم به المخابراتُ في كل مكان، وهو تحسُّس الأمور، ومعرفتها قبل أن تقع، وجمع البيانات القوية لكل حدث قبل وقوعه، وهذا الدور الاستخباراتي العظيم، والكبير لابنه:(عبدالله بن أبوبكر) يتطلب منه أن يتجول بين ظَهْرَانَيِ القرشيين، يجمع الأخبار من أفواههم، والذي يجري على ألسنتهم مما ينوون فعله، ويتحدثون فيه، وتلوكه ألسنتهم بالنهار، لينقله بين يدي الرسول الكريم، وصحبه ليلًا، ثم يأتي قبيل طلوع الشمس إلى بيته، فيصبح، وكأنه كان بينهم، كأنه كان يَبِيت معهم، وهم لا يشعرون بما نقله، ووضعه بين أيدي الرسول الكريم، وصاحبه ليتصرفوا بناءً على ما جمعه من أخبار، وما سمعه من مكر، وكلام، وهو يتجوَّل بين المشركين، ليعرف أخبارهم، وطريقة تفكيرهم في عرقلة مسيرة الرسول والإسلام، ولك أن نتعجب من تلك النفس الشجاعة القوية التي وَهَبَتْ روحها لله، ولنصرة دينه كما تربَّتْ من قبلُ على ذلك، وهي مخاطرة صعبة للغاية أقدم عليها ذلك الشابُ المؤمنُ، وتحمَّل عواقبها، ولو كانت إزهاقَ روحه، فسيكون راضيًا لأنها ستكون لله، وكل الأسرة وهبتْ نفسَها لهذا الدين، والذود عن حياضه، ونشره مهما كلفهم ذلك من مال، وجهد، وأرواح، فلو - لا قدر الله - عرفوا، واكتشفوا أمره ما تركوه، ولَكَانَ مصيره خطيرًا، قد يصل إلى حد الموت تحت وطأة التعذيب، ولكنَّ ذلك العجبَ سرعان ما يزول إذا كان ذلك الرجلُ هو ابن للصديق أبي بكر - رضي الله عنه - الذي أحسن تربيته، وأخلص في تأديبه، من أجل تلك اللحظات المهمة في تاريخ الإسلام، وما أجمل حصاد فعله !، وما أنبل ما جنى من ثمارها في تلك اللحظات الحاسمة من تاريخ الإسلام!، وما أعظم تلك الثمرات!، والتربية المجاهدة عندما تستثمر في شكلها الدقيق، ويخطَط لها بصورة تُؤتي أكلَها كاملةً كل حينٍ بإذن ربها - جل في علاه، وعز في أرضه، وسماه.

ويأتي دور السيدة أسماء مرة ثانية حيث كانت وحدها بمثابة كتيبة الإمداد والتزويد بالمؤونة، والطعام طيلة ثلاثة أيام كاملة باتَ فيها الرسول الكريم، ووالدها في الغار، فكانت - رغم كل ظروفها - من حملها، وأنها كانت في أشهرها الأخيرة، ومن خطورة الليل في الصحراء حيث الوحوش والثعابين وطول ارتفاع الغار، ومكانه العالي فوق الجبل، وصوت الليل يسري، ويرعب كبار الرجال- رغم ذلك إلا أنها كانت تحمل الطعام والشراب، وتمضي كلَّ تلك المسافات وحدها في الليل، وهي حامل، وليس معها إلا الله، وسوادُ الليل يغطي الصحراء، وصوتها يعصف بكل شيء، ومع ذلك قامت بمهمتها خير قيام، لكونها رُبِّيَتْ على عينيْ أبي بكر، وسمعه، وعشقت بذل أقصى ما في الوسع والطاقة، لإنجاح تلك الرحلة حتى آخر لحظة لهما، ثم مَضَيَا بعدها إلى المدينة المنورة ، فجاءت بزاد أكبر؛ ليتزودا به في طريق الهجرة الكبير الموحش، فقد أدت دورًا لا يستهان به، وفي لحظات الوداع للانطلاق للسفر كان عليها أن توفر غذاء كبيرًا وشرابًا وفيرًا كثيرًا ليكفي الرسول وأبا بكر في طريق هجرتهم إلى المدينة، وهنا تصف لنا السيدة أسماء بنت أبي بكر ذلك هذا الموقف قائلة:(حين أراد أن يسافر إلى المدينة فلم نجد لسفرته وسقائه ما نربطهما، فصنعت سفرة للنبي، فقلت لأبي بكر: ما أجد إلا نطاقي، قال: شقيه باثنين، فاربطي بواحد منهما السقاء، وبالآخرة السفرة).

ولما رأى أن النبي (صلى الله عليه وسلم) هذا الاجتهاد منها، وأنها شقت نطاقها نصفين، مضحية بها، قال لها حين فعلت ذلك: أبدلك الله بنطاقك هذا نطاقين في الجنة، فقيل لها من أجل ذلك: (ذات النطاقين)، وتلك المرأة المجاهدة نفسها قد تحملت ضربة قاسية، ولطمة شديدة على وجهها الكريم وهى حامل من أبي جهل، حيث انتشر خبر خروج النبي للهجرة، وصاحبه فذهب أبو جهل إلى بيت الصديق، ولما طرق الباب بشدة، فتحت السيدة أسماء - رضي الله عنها - فقال لها في شدة وغلظة:(أين أبوك يا بنت أبي بكر؟، قالت: لا أدري، فرفع أبو جهل يده، ولطم خدها حتى أطار قرطها).

فأثبتت بتحملها كل تلك الأمور، وكل ذلك الأذى ما لا تتحمله عشرات النساء القويات، فكانت خير مثال لكل النساء بسبب تربيتها الكريمة على التحمل لكل تبعات هذا الدين ونشره والذود عن حياضه.

وأخيرًا، هذا هو مولى أبي بكر الذي أعتقه، وحماه من أذى قريش:(عامر بن فهيرة)، حيث صار مولى له فيما بعد، أدى ذلك الرجل دورًا كبيرًا معروفًا في أحداث الهجرة النبوية، وذلك برعْي أغنام كانت لأبي بكر- رضي الله عنه - حيث جعلها تمشي فوق آثار أقدام النبي، وصاحبه الصديق؛ حتى يضيع على المشركين فرصة تتبع آثار الأقدام، وقد كانوا مهرةً حاذقين في تتبع الأثر، ومعرفة صاحبه، وكانوا في ذلك معروفين بالحذق، والمهارة وورد عنهم كثيرًا مسألة قص الأثر، والتوصل إلى كثير من الأمور التي كانت خافية، بسبب فهمهم للأثر، وإلمامهم بهذا العلم الدقيق، والأخبار بذلك معروفة.

تلك هي أسرة أبي بكر، وكلُّها قد شارك في أحداث الهجرة، وكانتْ له مهمةٌ محددة يقوم بها، وقد قام بها خيرَ قيام، وكانت سببًا كبيرًا في سلامة الرسول، وصاحبه، ووصولهما سالمين إلى المدينة المنورة، وقيام دولة الإسلام عزيزةً، شامخة، قوية على مر الزمان، وتعاقب الحِدْثَانِ، رضي الله عن أبي بكر وأسرته جميعا، وتقبل جهودهم، وجعلها مضاعفة الأجر، رافعة القدر، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات، وصلى الله، وسلم، وبارك على صاحب الذكرى العطرة، وعلى آله وصحبه أجمعين.



* كلية دار العلوم - جامعة القاهرة بجمهورية مصر العربية

[email protected]