[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/suodalharthy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]سعود بن علي الحارثي[/author]"هم - هما ومهمة، الأمر فلانا أقلقه وأحزنه، واهتم الرجل اغتم والمهموم المحزون والمغموم" ويقال "الدين هم بالليل ومذلة بالنهار"، ويقول سيد شعراء العرب، وهو الذي عصرته الهموم، واستوطنت رفقته - بدافع من طموحاته وتطلعاته العريضة الواسعة التي تناطح السحاب في عليائه، أو بسبب تفرده وعبقريته، أو لأنه عاند زمانه وناكفه... - طوال أيام عمره فخبرها وخبرته، فليس إذن أجدر منه بتشخيصها وتوصيفها وكشف انعكاساتها على حياة الإنسان، فالهم في شعره يخترق الجسد القوي السليم المعافى من الأسقام، المتقلب في نعيم الصبا ولذة العيش وزهرة الشباب وأمجاده، فيفترسه ويبتلعه فيصبح بعد حين "أثرا بعيد عين": والهم يخترق الجسيم نحافة .. ويشيب ناحية الصبي ويهرم.وبين النوم والمهموم جفوة فـ"لا يركب الكرى جفونا أقلقها الهم"، وتتدرج مستويات الهموم ودرجات حدتها وثقلها وأثرها الخطير على الإنسان، فـ"بقدر الهموم تكون الهمم" فتعكر صفوه وتسلب منه عافيته وتنغص عليه حياته، وكأنها قد أخذت العهد على ألا تتركه في حاله هانئا سعيدا مستمتعا بمباهج الحياة، وتتنوع أسبابها ـ أي الهموم ـ ومصادرها التي تؤثر وتتأثر كذلك بخصائص البيئة المحيطة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والمستوى الثقافي للإنسان وأنماط سلوكه وطبيعته وسرعة تأثر مشاعره وتوجهاته الفكرية وتخصصاته العلمية وطبيعة وظيفته أو مهنته، وتأخذ الهموم الإنسان على حين غرة، عندما يعرج ملك الموت على أسرته السعيدة المتماسكة المتحابة فيقطف روحا من أرواح أفرادها، أو تفاجئه بكارثة مزلزلة ومصيبة عظيمة وفضيحة مدوية تحل عليه من حيث لا يحتسب، فتتضعضع لها أسس حياته وتهتز مكانته الاجتماعية واسمه المتلألئ في سماء النجوم وتتهاوى أركان منزله العامر قبلها، أو ينهار مشروعه التجاري وتتلاشى إنجازاته ومكاسبه وتنتكس نجاحاته ويختفي جاهه وحظوته التجارية، وتتراكم عليه الديون ويصبح مطاردا من قبل المدينين تعرض أملاكه ومنزله الذي يأوي أسرته فلا تكفي لسداد جزء منها، ويتخلى عنه من كانوا يوما يدعون بأنهم أحباؤه وأصفياؤه وأصدقاؤه، فلا يجدهم بجواره ولا يرى شيئا من مودتهم التي كانوا يتبجحون بها، ولم يحصل على نتف من مالهم الذي ادخروه وأعمالهم التي أسسوها فنمت وازدهرت بفضل مساعدته لهم واستثمارهم لاسمه ومكانته التي تتربع في مصاف الكبار من أصحاب الأعمال والثراء. وفي ذلك قيل: "أصحاب الغم والحزن في الدنيا ثلاثة، محب فارق حبيبه، ووالد ضل ولده، وغني فقد ماله"، فهي أشد موروثات الهم، وما يليها في المستويات أقل وجعا وألما منها، فصاحب البستان في القرية تناوشه الهموم كلما شاهد نخيله من الصنف الممتاز، التي كلفته الكثير من المال والعناء أو ورثها من آبائه وكانت لها منزلة عظيمة عندهم، تذبل وتعاني حتى بدت وكأن الألم يعتصرها والدموع تسيل من مآقيها بفعل المرض الذي سببته حشرة الدوباس التي حولت حصاد العام من تمور فاخرة كما اعتادت في أعوام سابقة إلى علف للحيوان، فلا يجد متنفسا للتعبير عن همومه إلا جهة الاختصاص التي صب جام غضبه عليها لأنها لم تقدم إنجازا ملموسا في مكافحة هذه الآفة. وصاحب المؤسسة المتخصصة في حفر الآبار المعتمد على مردودها المادي في توفير متطلبات أسرته أهمه الخصب الذي أشاع البهجة والسعادة في قلوب الناس؛ فالأودية القوية التي سالت أكثر من مرة رفعت من مناسيب المياه في الآبار والأفلاج فلم تعد هناك حاجة إلى الحفر والتعميق بحثا عن جدول ماء، فباتت معداته عاطلة ومصدر رزق أبنائه مهددا وعادت فوائد الناس وسعادتهم هما عليه، ولكنه هم بسيط وخفيف مقارنة بمن استل الموت منه حبيبه، وفي ركب هذه الحياة المحتشد بالأحداث والمفاجآت، من هو مسكون بحب أمته، عاشق لتاريخها وحضارتها، قلق على مستقبلها، مهموم لحالها وواقعها المؤلم، ولمآسيها ومشاكلها المستعصية على الحل، فيعبر عن غيرته ويفصح عن مشاعره ويجاهر برأيه باللسان والقلم والفعل أحيانا، ويتراكم همه عندما يكتشف بأن صرخاته وجهود ومبادرات الكثيرين من أبناء الأمة تذهب أدراج الرياح دون أن تحرك ساكنا، أو تحدث أثرا، وطالب العلم يحمل في نفسه تلالا من الهموم، عندما يشيع ويواري العالم الجليل الثرى بعد أن حصدت سيرته الثرة الحافلة بالعطاء وأخلاقه العالية شعبية واسعة، وملأت سمعته العلمية الآفاق، ولم تقف كتبه ومعارفه عند حدود جغرافية بلده، ولم يحتج إلى اعتراف مؤسسة أو شهادة مطرزة. ومن جانب آخر فقد أصبحت الهموم مرضا استوطن أجسادنا واستولى على أرواحنا، وأقلق مضاجعنا حتى في لحظات الانفراج والفوز والابتهاج والاحتفال والانتصار على المشاكل والتحديات والمعيقات، تطل علينا بوساوسها وشكوكها وبواعثها التي وإن بدت مبررة في أحيان قليلة، إلا أنها لا تعدو أن تكون مجموعة من الهواجس والمخاوف التي تفتقد المسببات الحقيقية والمبررات الوجيهة بسبب تعقيدات الحياة، خصوصا تلك المرتبطة بالإنسان في التفكير المضني والمقلق في معيشته وعلاقاته المتشابكة ومستقبله، وانشغال كل واحد بهمومه ومشكلاته الخاصة، وبسبب التفكك الأسري وزيادة أحجام المسؤوليات وانفصال الأسرة الصغيرة عن مظلة العائلة الكبيرة، والتكالب على المنافع والتحاسد والصراع الشرس على تحقيق النفوذ والثراء وبلوغ المناصب الرفيعة، وهي من الشكليات وصغائر الأمور التي لا تستحق أن نوليها ذلك الاهتمام الواسع والمركز والعميق، ونهدر فيها الوقت والجهد والفكر مهملين سعادتنا والتمتع بالمباهج العديدة التي تحيط بنا مضيفين هموما سوف تقودنا إلى الأمراض والمشاكل النفسية وحياة تشوبها المنغصات والوساوس والقلاقل، وتغيب عنها الراحة والطمأنينة والسعادة التي تعد أساسا ومرتكزا لحياة جميلة هانئة ناجحة، والشاعر يقول:"هون عليك فكل الأمر ينقطع .. وخل عنك ضباب الهم يندفعفكل هم له من بعده فرج .. وكل كرب إذا ما ضاق يتسع"وتقول الحكمة:"إنك لا تستطيع أن تمنع طيور الهم من أن تحلق فوق رأسك، لكنك تستطيع أن تمنعها من أن تعشش فيه".