رفيف بنت عبدالله الطائي ✱

“ فاقد الشيء لا يعطيه” بمعنى من فقد قيمة العطاء المعنوي لا يستطيع اعطاءه لغيره... ومن فقد الجانب المادي لا يستطيع منحه للآخرين.. حكمة متداولة لدى جميع الثقافات.
ولكن... ما هو المغزى منها؟ وهل هي صحيحة؟ وهل هناك دلائل على صحتها؟
عزيزي القارئ... مقالي اليوم سأطرح من خلاله هذه الحكمة وإن كانت مغلوطة أم لا... من خلال عرض وجهة نظري الخاصة عنها.
والتساؤلات كثيرة لهذه المقولة المكررة... هل فاقد الحب لا يعطيه؟ هل فاقد الثقة لا يعطيها؟ هل فاقد الأمان لا يعطيه؟ هل فاقد الحنان لا يعطيه؟ والكثير من المشاعر المعنوية.
وما أراه... حتى الجانب المادي له نصيب من هذه المقولة ... فهل من عانى من البخل والحرمان المادي.... لا يمنح الكرم للآخرين؟
بالطبع هناك اختلاف ما بين الفقد المعنوي، والفقد المادي... ولكن كلاهما تحت سياق هذه الحكمة ففاقد الشيء لا يعطيه؟ هل هي مقولة جازمة؟ وهل هي مبدأ صحيح؟
ولنكن على علم أنه من استفقد أحد الأشياء... هو من يشعر بقيمتها! بمعنى من فقد الأمان والاستقرار في طفولته هو من يشعر بمدى قيمة هذا الجانب في الحياة...
على الأرجح، إن فاقد الشيء يعطيه وبشكل مبالغ فيه ... ففاقد الحب والحنان يعطيه بشكل مترف، وفاقد الثقة يكسب ثقة الآخرين، والفاقد للجانب المادي يبذر عند عطائه المادي ... وذلك بسبب حاجته النفسية فهو يبحث ويعطي ... ذلك لأن فاقد الشيء هو من يشعر بقيمة العطاء المعنوي والمادي ولم يحصل على كلا الجانبين بسهولة.
من رؤيتي الخاصة ... لا أتفق مع عبارة فاقد الشيء لا يعطيه بل فاقده سيعطيه للمحطين به بترف وبإسراف ومبالغة، لأنه محتاج أن يعوض نفسه بالفقد المعنوي أم المادي...ولأنه يشعر بقيمة الفقد الذي سيعوضه للآخرين، ومدى حاجتهم له.
الطفل الذي فقد الأمان سيحاول عند الكبر البحث عنهو إعطاء الأمان لمن تميزوا لديه، يهبهم الاستقرار والثقة والحب والأمان، وكيف لا؟ وهو من عانى من مرارة فقد الأمان النفسي... لذلك سيهبه بكل ما لديه، وهو الأجدر بأن يعطي هذا الإحساس الآمن.
فاقد الشيء المعنوي يعطيه وبكل ألم وحب يعطي لمن امتلك، واستوطن قلبه وذاته.
وفاقد الجانب المادي ولأنه حرم في صغره ستراه كريما مع الناس الذين يعانون من نفس حرمانه لأنه عرف معنى بؤس وألم الحرمان من ذلك.
إن الحديث عن مقولة فاقد الشيء لا يعطيه كما رأيت.... الجزم بصحتها غير منطقي.. فهل يعقل من فقد احترام الآخرين له؟ لا يحترم الطرف الآخر؟ بل سيحترمه ويقدره، فعند التعامل سيرى ذاته التي لم تحترم ذات يوم، فهو يحترم ذاته لذلك سيحترم الآخرين.
فاقد الشيء بسبب ما عاناه سيعطي الحب بوفرة... سيعطي الأمان بشكل مبالغ فيه
، يحاول كسب ثقة من يقدره ويحبه، ولن يقول سره إلا لمن رأى به كيانا نابضا من العطاء والكتمان.
فعلى سبيل المثال، إن كان شخص ما حرم من العلم سيعوض ذلك بأبنائه ويحثهم على النجاح والعلم ويحصلون بما لم يحصل عليه يوما...
إن طبيعة النفس البشرية بشكل عام تشعر ببعض الحرمان من جانب معين ومن خلال حرمانه ونقصه من هذا الجانب سيعوضه مع الآخرين... من فقد الأمل يعطي الأمل للآخرين... ومن فقد الحب فقلبه عاصمة من الحب، ومن فقد الأمان يداه ممدودتان لإعطاء الأمان... لذلك إن الإحساس بفقد الشيء هو ذات الإحساس المحفز للعطاء.
نعم فاقد الشيء يعطي ببذخ لأنه سيصنعه من العدم ومن المستحيل... الباحث عن الحب سيجد الحب وسيعطيه بتفانٍ... فاقد الثقة سيصنع الثقة من خلال ثقته بذاته ومن هنا يصبح مكسبا لثقة الآخرين...
ومن وجهة نظري عزيزي القارئ، تفسير بسيط... ولأن فاقد الحب يبحث عن الحب فكيف لا يعطيه؟ وفاقد الأمان المحتاج له كيف لا يشعر الآخرين بالأمان؟ فهي معادلة بسيطة لديه الأخذ والعطاء، ولأنه يحتاج من الغير ما فقده سيعطيه أيضا للغير وسينتقي الناس الذين يستحقون عطاءه ... من عانى من الظلم والخوف في طفولته سيكون ملجأ للراحة والطمأنينة، ومن فقد الثقة من أقرب الناس له سيكون مصدرا ومنبعا للثقة... ولأنه يبحث عن هذا الأمان فهو يعوض ذاته ويعطي الآخرين ... فهو يسير هدفه ويحققه بمبدأ الأخذ والعطاء.
فهكذا هي دورة الحياة من الجانب النفسي... واعلم عزيزي القارئ أن الحكم والمقولات والأمثال ما هي إلا مسألةٌ وقتية ومقولة كانت في لحظتها وزمنها، ما هي إلا قناعة لقائلها فأصبحت متداولة وليست صحيحة.. فهي عن تجربة مر بها كاتبها أو قائلها وليست مشروطة بأن نعمل بها ونجعل منها قناعة ومبدأ..... فاقد الشيء نعم قادر أن يعطيه وسيعطيه بكل كرم ... وبكل حب ... وبكل أخلاق طيبة، لأنه لم ولن يحرم أحبابه من هذه القيمة الجميلة التي افتقدها، ولأنه قبل أي شيء هو محتاج أن يعوضها لذاته المحرومة معادلة وحسبة بسيطة لديه أخذ وعطاء وحب وتفان...وبكل سعادة يهب من أحبهم هذا العطاء الذي طالما افتقده.... تذكر عزيزي القارئ الذات البشرية للجميع حرمت من بجانب ما ومن أهداف تلك الذات المنسية تعويضها بالأخذ والعطاء.