.. ورابعًا: وجاء أيضا منكرًا على أنه صفة مشبّهة من مرض يمرض فهو (مريض): وكرر هذا اللفظ في القرآن الكريم ثلاث مرات كلها جاءت في سورة البقرة،في الآيات الكريمات رقم:(184ـ 185ـ196) كما في قوله: (..فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ..) (البقرة ـ ١٩٦)،وخامسًا: وجاءت بصيغة (مرضى) جمع مريض ويجمع على (مراضى) أيضًا: وجاءت خمس مرات في أربع سور، اثنتين في النساء (الآية رقم 43 والآية رقم 102) مرة واحدة في (المائدة ـ التوبة ـ المزمل) وإليك الأخيرة، (.. عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ..) (المزمل ـ ٢٠)،والجدير بالإشارة الى أن آية التوبة جاءت مقترنة بالألف واللام (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ.. ) (التوبة ـ ٩١)،وسادسًا: وجاءت بصيغة الفعل الماضي المثبت للمفرد المتكلم (مرضت):(وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)(الشعراء ـ ٨٠)، ونستخلص من هذا أن مادة (م ر ض) جاءت في القرآن الكريم باختلاف التراكيب من المصدر إلى الفعل، وهنا سؤال يطرح علينا نفسه، ألا وهو: هل معنى مادة (م ر ض) في القرآن الكريم باختلاف تراكيبها جاء بمعنى واحد، أم أن لها معانٍ مختلفة؟ وللإجابة عن هذت السؤال اسمحوا لي إخواني الكرام أن أصحبكم في رحلة شيقة نشيم فيها عبير الزهور التفسيرية لآي القرآن الكريم، عبر سيرنا في بساتين أهل التفسير والتأويل،فإلى هناك، وأول ما أوقف قافلة سيرنا، قول الطبري:(وأصل المرَض: السَّقم، ثم يقال ذلك في الأجساد والأديان. فأخبر الله جلّ ثناؤه أن في قلوب المنافقين مَرَضًا، وإنما عنى تبارك وتعالى بخبره ن مرض قلوبهم، الخبرَ عن مرض ما في قلوبهم من الاعتقاد ولكن لمّا كان معلومًا بالخبَر عن مرض القلب، أنَّه معنىٌّ به مرضُ ما هم معتقدُوه من الاعتقادـ استغنى بالخبَر عن القلب بذلك، والكفاية عن تصريح الخبَر عن ضمائرهم واعتقاداتهم،والمرضُ الذي ذكر الله جل ثناؤه أنّه في اعتقاد قلوبهم الذي وصفناه: هو شكُّهم في أمر محمد وما جاء به من عند الله، وتحيُّرُهم فيه..إلخ).(تفسير الطبري: جامع البيان ت شاكر/ 278)،أما صاحب كتاب (المشترك اللفظي في الحقل القرآني) فقد لخص استعمالات كلمة مرض في القرآن الكريم باختلاف تراكيبها فيقول: تفسير المرض على أربعة وجوه، أحدها: يكون بمعنى الشّكّ:(فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)(البقرة ـ ١٠)،أي: شكا، ومثله في براءة (وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ)(التوبة ـ ١٢٥)، يعني: شك، ومثله:(..رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُم) (محمد ـ ٢٠)، ونحوه كثير، وثانيها: يكون بمعنى الفجور، كقوله تعالى:(يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا)(الأحزاب ـ ٣٢)، يعني: فجورًا، ونظيرها (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا) (الأحزاب ـ ٦٠)،يعني: فجورًا، ليس في القرآن غيرهما، وثالثها: يكون بمعنى: الجراحة: قال الله تعالى:(.. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا..) (النساء ـ ٤٣) يعني: إن كنتم جرحى، ونظيرها في (.. وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا ..) (المائدة ـ ٦)،ليس في القرآن غيرهما، ورابعها: يكون لعينة، يعني جميع الأوجاع:( .. وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ..) (البقرة ـ ١٨٥)،من جميع الأوجاع، (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ..) (التوبة ـ ٩١)،أي: من كان به شيء من مرض، وقوله:(..وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ ..) (النور ـ ٦١)، مثلها في (الفتح ـ17): ليس في القرآن غير هذه المواضع، انظر (المشترك اللفظي في الحقل القرآني ص: 225)،وعليه فإن المرض جاء في القرآن الكريم يخض الأبدان والأخلاق، ولما كان في الأخلاق أكثر وفي الأبدان منه أندر، أشار القرآن إلى أهم أمراض الأخلاق، وذكر أمرًا الأبدان بشكل عام، ويوضح ذلك الراغب الأصفهاني فيقول:الْمَرَضُ: الخروج عن الاعتدال الخاصّ بالإنسان، وذلك ضربان، الأوّل: مَرَضٌ جسميٌّ: وهو المذكور في (النور ـ 61)، و(التوبة ـ 91)، والثاني: عبارة عن الرّذائل: كالجهل، والجبن، والبخل، والنّفاق .. وغيرها من الرّذائل الخلقيّة، ويشبّه النّفاق والكفر ونحوهما من الرذائل بالمرض، إما لكونها مانعة عن إدراك الفضائل كالمرض المانع للبدن عن التصرف الكامل، وإما لكونها مانعة عن تحصيل الحياة الأخرويّة،وإمّا لميل النّفس بها إلى الاعتقادات الرّديئة ميل البدن المريض إلى الأشياء المضرّة، ولكون هذه الأشياء متصوّرة بصورة المرض قيل: دوي صدر فلان، ونغل قلبه، روي أن أبا هريرةـ رضي الله عنه: قال رسول الله (صلّى الله عليه وسلم):(من سيدكم يا بني سلمة؟قالوا: سيدنا جدّ بن قيس إلا أنّه رجل فيه بخل، فقال ـ صلّى الله عليه وسلم:وأيّ داء أدوأ من البخل!؟ بل سيدكم بشر بن البراء)(أخرجه الحاكم في المستدرك 3/ 219)، وقال: صحيح على شرط مسلم، وأقرّه الذهبي، انظر (المفردات في غريب القرآن ص: 765)، والقرآن الكريم هنا يعطينا نموذجا واقعيا نعيشه ونحياه طيلة أزماننا وحياتنا، فالمرض الجسدي لا يكون عامًا إلا إذا كان عامًا وهنا ينقلب إلى وباء ـ نسأل الله السلامة ـ وعليه فقد أشار القرآن الكريم إلى ذلك إشارة، وتحدث عنه بلفت الأنظار إلى ذلك معلنا أن الذي يمرض ويشفي هو الله تعالى، ولكن كما قال سيدنا إبراهيم:(فَهُوَ وحده يَشْفِينِ يبرئني من المرض ويعطى الشفاء لا الأطباء وذلك انهم كانوا يقولون المرض من الزمان ومن الاغذية والشفاء من الأطباء والادوية فأعلم ابراهيم ان الذي امرض هو الذي يشفى وهو الله تعالى لكن نسب المرض الى نفسه حيث لم يقل وإذا أمرضني والشفاء الى الله تعالى مع انهما من الله تعالى لرعاية حسن الأدب في العبارة، كما قال الخضر ـ عليه السلام ـفي العيب(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) (الكهف ـ ٧٩)،وفى الخير قال:(وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا) (الكهف ـ ٨٢)، وكذا الجن راقبوا هذا الأدب بعينه حيث قالوا(وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) (الجن ـ ١٠)، قوله:(وَإِذا مَرِضْتُ .. إلخ) عطف على يطعمنيويسقيني نظمهما في سلك صلة واحدة، لما أن الصحة والمرض من متفرعات الأكل والشرب غالبًا،فإن البطنة تورث الأسقام والأوجاع،والحمية اصل الراحة والسلامة، قالت الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى ما سبب آجالكم؟ لقالوا التخم! وفى الحكمة: ليس للبطنة خير من خمصة تتبعها، انظر (روح البيان 6/ 284) بترقيم الشاملة.
وحول حديث القرآن عن الأمراض والأوبئة نستكمل حديثنا بإذن الله تعالى.

محمود عدلي الشريف
[email protected]