تناولنا في الحلقة السابقة انواع الأهلية بشقيها أهلية الوجوب وأهلية الأداء وأحكام كل واحدة منهما، وسنذكر في هذه الحلقة ـ بمشيئة الله وتوفيقه ـ المراحل التي يمر بها الإنسان في حياته. فإنّ كلًّا من أهلية الوجوب والأداء بقسميها الناقصة والتامة تكون متردّدة بين الأدوار التي يمر بها الإنسان في حياته منذ نشأته إلى وفاته، وهذه الأدوار:
الأوّل: دور الجنين، ويُعتبر الجنين جزءًا من أمّه يقر بقرارها وينتقل بانتقالها، ولذلك تنتفي عنه أهلية الوجوب، لعدم ثبوت الذمة له.
الثاني: دور الانفصال إلى التمييز، متى انفصل الجنين عن أمّه بولادته حيًّا تثبت له أهلية الوجوب كاملة، أمّا أهلية الأداء تكون منعدمة لعدم تمييزه، فهو لا يُكلّف بشيء من التكاليف الشرعية لعدم مخاطبته بها.
الثالث: دور التمييز إلى البلوغ، ويبدأ هذا الدور ببلوغ الصبي سن السابعة وينتهي بالبلوغ وفي هذا الدور تثبت له أهلية الوجوب كاملة، أمّا أهلية الأداء فتثبت للصغير في هذا الدور ناقصة لنقصان عقله، ويترتب على هذه الأهلية الناقصة صحة الأداء منه لا الوجوب وذلك مثل العبادات البدنية لأن فيها نفعًا محضًا للصغير.
الرابع: دور البلوغ وحتى الوفاة، إذا بلغ الإنسان تثبت له أهلية الأداء كاملة، وصار أهلًا لتوجيه الخطاب إليه وتكليفه بجميع التكاليف الشرعية، وتصح منه جميع العقود والتصرفات.
* إذن الأب للولد بإدارة أموال الصغير إذا أتمّ الصبي المميز الخامسة عشرة من عمره، فللأب أن يأذن له بإدارة أمواله إذا أنس منه الرشد، والرشد الصلاح في المال عند جمهور الفقهاء، يقول الله تعالى: (فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ)، يعني صلاحًا في أموالهم، ولأنّ هذا إثبات في نكرة، ومن كان مصلحًا لماله فقد وُجِد منه رشد، أمّا من لم يؤنس منه الرشد فلا يدفع إليه ماله، ولا يدفع له ماله حتي يُختبر، لقول الله تعالى:(وَابْتَلُوا الْيَتَامَى) أي: اختبروهم، واختباره النظر وفحص التصرفات التي يتصرف فيها أمثاله إليه.
وقد نصَّت المادة (145/‏أ) من قانون الأحوال الشخصية على أنّه:(للأب الإذن لولده الصغير المميز إذنًا مطلقًا، أو مقيدًا، بإدارة أمواله، أو جزء منها، إذا أتم الخامسة عشرة من عمره، وآنس منه حسن التصرف، وتستمر مراقبة الأب على تصرفات ولده).فقد أفاد هذا النص: أنه يجوز للأب أن يأذن لولده الصغير المميز بإدارة أمواله كلها أو جزء منها بحسب الأحوال، وهذا الإذن إمّا أن يكون تصرفًا مطلقًا في البيع والشراء والهبة وغير ذلك، وإمّا أن يكون مقيدًا لنوع معين من التصرفات.
وإذن الأب لولده المميز مشروط بشرطين، الأوّل: إتمام الصغير الخامسة عشرة من عمره، بحيث لو كان عمره أقلّ من ذلك، لا يأذن له والده بإدارة أمواله، والثاني: أن يأنس منه حسن التصرف في إدارة أمواله، فلا يكفي في الإذن إتمام الخامسة عشرة من عمره، بل لا بُدّ أن يحسن التصرف في إدارة الأموال، حتى لا يبدد أمواله لعدم حسن تصرفه.
ومع الإذن للصغير بإدارة أمواله، إلا أنه يبقى على الأب متابعة الصغير ومراقبته في إدارة أمواله حتى يتأكد من مقدرته على إدارة أمواله وعدم تبذيرها، ومتى اتضح للأب عدم مقدرة الولد على إدارة أمواله لعدم حسن تصرفه جاز له الرجوع في الإذن ابتغاء مصلحة الولد. جاء في الجوابات للإمام نور الدين السالمي:(إن صح أنّ ذلك اليتيم مبذر بعد بلوغه فلا أقول أنه يدفع إليه ماله، لأنّ الله تعالى يقول:(فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ).وقد نصّت الفقرة (ب) من المادة (145) من قانون الأحوال الشخصية على أنّه:(للأب سحب الإذن، أو تقييده، متى ظهر له أنّ مصلحة ولده تقتضي ذلك).فقد أفاد هذا النّص: أنّه يجوز للأب سحب الإذن من ولده الصغير بإدارة أمواله، إذا رأى منه عدم حسن التصرف بأن قام بتبذيرها، وكما يجوز له سحب الإذن يجوز له تقييده تحقيقا لمصلحة الصغير في ذلك..
وللحديث بقية.


د/ محمد بن عبدالله الهاشمي
قاضي المحكمة العليا
[email protected]