"النبهاني العماني" شاعر الفروسية نموذجا

لا شك أن التراث العربي يحمل لنا الكثير من الدلائل والنماذج التي تبين لنا مكانة الخيل في المجتمعات العريية قبل الاسلام وبعده ، فلقد كان الحصان عند العرب هو المال والجاه حتى أن البعض يقيم الاحتفالات عندما تلد الفرس ، والبعض يفضلها على عياله ، وكان للخيل في الشعر العريي منزلة رفيعة ، فأعطوه العديد من الصفات الحميدة المرتبطة بالسرعة والنجاة ، فعلى سبيل المثال نرى العباس بن مرداس يصف الحصان فيقول :

جاء كلمح البرق يعتفو ناظره ... تسبح أولاه ويطفو آخره

ويقول اسماعيل بن عجلان في مكانة الخيل :

ولامالَ إلا الخيلَ عندي أعده
وإن كنتُ من حُمرِ الدنانيرِ موسرا
أقاسمُها مالي و أطعمُ فضلَها
عيالي وأرجو أن أُعانَ وأوجرا

اذا لم يكن عندي جوادٌ رأيتني
ولو كان عندي كنزُ قارونَ معسرا

و في مكان آخر نرى جعفر بن كلاب يؤثر الخيل على نفسه فيقول:
أسويها بنفسي أو بجزءٍ فألحِفها ردائي في الجليدِ .
أما عنترة بن شداد فيصف حبه لحصانه الى الحد الذي كان فيه يذود عنه أثناء القتال :
أقيه بنفسي في الحروب ... وأتقي بهاديه إني للخليلِ وصولُ
وتزخر مصادر الأدب العربي بالكثير من النصوص الأدبية في مجال هذا الوصف ، ونجد في كتب التراث مصادر ذات قيمة أدبية راقية جدا ، يندر أن يوجد مثلها في آداب الشعوب الأخرى ، ولعل أكثر من تطرق لموضوع الخيل في مصنفاتهم ، من أدباء التراث العربي هو الأصمعي والجاحظ وابن الأعرابي والأصفهاني ، صاحب الأغاني وابن عبد ربه صاحب العقد الفريد ، وابن الأثير صاحب الكامل والطبراني ، بل أن بعضهم اختص الخيل بمصنف خاص كابن الأعرابي في كتابه ( اسماء خيل العرب وفرسانها ) والأصمعي في كتابه ( الخيل ) وابن الكلبي في كتابه ( أنساب الخيل في الجاهلية والإسلامية ) وابن قيم الجوزية في كتابه ( الفروسية ) ولم يستثن الأدب العماني في تراثه القديم ، من الاحتفاء بالخيل والفروسية عن الأدب العربي ، ولعل أكثر من اهتم بالخيل ووصفها في الأدب العماني هو الشاعر السلطان سليمان بن سليمان بن مظفر النبهاني شاعر الخيل والفروسية والفخر .
ولد النبهاني في النصف الأول من القرن التاسع الهجري وتوفى في أوائل القرن العاشر على وجه التقريب ،( تلقى علومه الأولى من قراءة وكتابة وحساب بمدينة بهلا , وواصل علومه اللغوية التي بلورتْ تمكنه من اللغة وإحكامه لعلوم العروض والقوافي فيها ، وقد عكس شعره ثقافتة الواسعة وتمكنه من اللغة ، وإحكامه للقوافي ، ودرايته بعلوم العروض فهو سلطان وشاعر واسع الثقافة ) (1)
ولم يحافظ النبهاني على تعدد أغراض القصيدة إلا في تلك القصائد التي يعارض فيها الشعراء ، مظهرا لقدراته الفنية ، لكنه في معظم قصائدة الأخرى يميل إلى الغرض الواحد خاصة عندما يتغزل بحبيبته ، أو يصف الخيل ، أو يصف حروبه ، أو يرثي أحد ا، ولأن النبهاني ينتمي إلى فئة الشعراء الفرسان ، مثله مثل أبي فراس الحمداني ، والشريف الرضي ، وعنترة بن شداد ، والمعتمد بن عباد ، قامتْ تجربته على شبكة من الصراع ، متلاحمة تلاحما شديدا ومكونة نسيجا واحدا متجانسا أضفى على رؤية الشاعر لونا متميزا من الوحدة النفسية ، فالنبهاني في حالة صراع مستمر، يصارع الغزو الأجنبي على بلاده ، ويصارع مناوئيه من الأئمة والقبائل الأخرى المترصدة بالحكم ويصارع بعض الطامعين في الحكم من أفراد أسرته ، وأصعب أنواع هذا الصراع ، صراعه مع النفس إذ كان لا يرغب في قتال أخيه حسام الذي انضم لفريق الأعداء ، وشمتهم به حتى التقيا في حرب شهيرة اسمها حبل الحديد حيث قتل النبهاني أخاه وعاد نادما في قصيدته الشهيرة :
لهفي عليك كلهف أم ٍّ برَّة ٍ ...
فقدتْ جنينا فهي ثكلى تنزع ُ
ضعضعتنا أسفا عليك ولم نكن ...
لولا رَدَاكَ لنكبة ٍ نتضعضع ُ
قطعتْ يدي عمدا يدي وتوهمي ...
من قبل أنَّ يَدًا يَدًا لا تقطع ُ ( 2)
ولشعر الفروسية ملامح خاصة به ، فشعرهم يرتكزعلى محاور الفخر والغزل ووصف الخيل والمعارك ، فلكل منهم حبيبته الشهيرة التي يبثها همومه الحربية ومعاركه وشجاعته ، ومن ثم يتغزل بها غزلا عفيفا محفزا للنفس على الاستمرار في الانتصارات التي يقدمها للحبيبة مهرا لحبه .
وفى ديوان النبهاني كثير من القصائد التي يعتبر الغزل موضوعها الوحيد ، ومن هذه القصائد قصائده في راية ، وقد سجل الشيخ نور الدين السالمي إعجابه بقصيدة النبهاني الرائية في تحفة الأعيان وقال: (إنها تزاحم المعلقات السبع بلاغة وتزيد عليها عذوبة ورشاقة)(3)
ومن هذه القصيدة يقول النبهاني :
وفيهن بيضاءُ المجرَّدِ طفلةٌ ...
لطيفةُ طيِّ الكشحِ ريا المؤزّر ِ
عقيلةُ بيض ٍمن خرائد يَعربِ ...
حللنَ السَّنامَ الضخم َمن متن حميرِ (4)
وراية أشهر حبيبات النبهاني ، ولها النصيب الأوفر من غزلياته , ودارت حولها حكايات أقرب للأساطير، (5) وفيها يقول :

لرايةَ وجه ٌيكسفُ الشمسَ والبدرا
ولدنُ قوام يخجلُ الصعدة َ السمرا
وثغرٌ كممطورِ الأقاحِيِّ واضحٌ
وسلسالُ ريقٍ يفضحُ الشهدَ والخمرا
وجيدٌ كجيدِ الريمِ حالٍ مطوقٍ
يزينُ الجمانَ واليواقيتَ والشذرا
إذا نظرتْ أصمتْ قلوبًا ، وإن مشتْ
مشى الشوقُ في أحشاءِ عاشقها جهرا (6)
لكن النبهاني رغم هذه الرقة في غزله وهذا اللين مع المحبوبة ، شديد عصي على الخصوم، وهذه إحدى صفات الشاعر الفارس ، فقد خاض النبهاني معارك كثيرة وخبر ميدان القتال وأحرز من الانتصارات على مناهضي حكمه الكثير فهبّ يترنم بوقائعه ، وتمرسه بالشدة والصلابة في مجابهة الأخطار، ويظهر شعره صورة المرئيات واضحة ، ويكاد يصور لنا المعركة بجزئياتها وتفصيلاتها تصويرا واقعيا غير متخيل :
ولبست لامتي المفاضة واثقا
بالظاهر المحيي المميت الباطنِ
وركبت جفلة والرماح شوارع
والخيل بين تضارب وتطاعنِ
فتضعضعت عني الفوارس إذ رأت
حملات حيدر في غزاة هوازنِ (7)


ولأن الفرس هى عدة الفارس الرئيسية آنذاك ، نرى النبهاني قد خصَّ الخيل بقصائد متعددة، كما تعددت أسماء خيوله ، فمنها فرسه الشهيرة جفلة ، وقد ذكرها في أكثر من قصيده ، وخصص لفرسه الغراب أكثر من قصيدة كذلك :-
إن السوابقَ كلها يقصُرنَ عن جري الغراب ْ
قد سُسْته فلوًا وق لتُ له أسبق ِ الجُرْد َ العِراب ْ
صافي الأديم ِ كأنما يجري بمتنيه ِ السَّرابْ (8)

وقد خصص النبهاني قصائد بأكملها لوصف الخيل ومدى حبه لها:
الخيلُ أفضلُ ما يجبى ويُصطنعُ
وخيرُ مالٍ به في البأسِ يُنتفعُ
هنَّ المعاقلُ إلا أنها سفنٌ
تنجو براكبها إن خامَر الفَزَعُ
الخيلُ أنجحُ ماشنَّ المغارُ بهِ
أهلُ الحِفاظِ وخطِّىُ القنا شرعُ(9)

ويقول من قصيدة أخرى خصصت كلها للخيل راسما صورة فنية مجسدة الملامح والتفاصيل ، واصفا ألوانها وعلامات الأصالة فيها وأنسابها وجمالها وتناسقها :
هيفاءُ لا رَوَحٌ فيها ولا صَككُ كلا ولا فضضٌ فيها ولاضَلع ُ
جلتْ ودقت ْورقت ْواستوتْ ودنت وابذوذ َختْ فتكافا خلقها البدعُ
فالرأسُ مرتفعٌ والصدرُ متسع ٌ والصُّلبُ متضع ٌ والخلقُ مجتمعُ
كأنَّ مقلتها قد أولجتْ نبأً في أذنها فهي تستقصي وتستمعُ(10)
وتكتمل فروسية النبهاني بالطرديات فهو يكثر في شعره من الطراد والقنص ووصف رحلة الصيد , وله قصائد عديدة في ذلك , من أجملها تلك القصيدة الطويلة ذات النفس القصصي الملحمي , والتي تصف الصياد وكلابه وثور البقر الوحشي وصفا تصويريا متحركا ، وهو من خلال تلك الصورة يسقط المشهد على نفسه مطاردا لأعدائه ومنتصرا عليهم .

الخلاصة
أن النبهاني شاعر الفروسية والفخر، وقد اتهم ظلما بأنه شاعر المجون والعبث واللهو والغزل الفاضح من قبل أعدائه ومناوئيه ، وكرر ذلك المؤرخون العمانيون ومن تابعهم من الدارسين ، وأنى لمثله أن يعبث ويلهو !! والخصوم والمطامع بملكه تهدده ، وتحيط به من كل صوب ، فالغزو الخارجي الفارسي خاصة يتهدد بلاده ، ومعاركه مع الأئمة ومعاركة مع بعض النباهنة الطامعين ومعاركه حتى مع أخيه الذي قتله وعانى من أثر ذلك أشد الألم والحزن الذي أمرضه ،
وها هو بعد أن هزم في إحدى معاركه ، التي فقد على إثرها ملكه ، رحل الشاعر الملك النبهاني إلى هرمز من أرض فارس , وظل هناك يعاني الغربة والوحدة وفي ذلك يقول :
دَعاني الهَوى العُذريُّ بالقسْمَ موهنا
لبرق ٍ تنشتْ من عمانَ سحائبُهْ
فأرَّقني والخاليُ البالِ هاجعٌ
فبِتُّ له حتى الصباحِ أراقبهْ
خليلي هل حصنُ العميري عامر
وهل عقرُ نزوي مخصباتٌ ملاعبُه
وهل شرعُ بُهلي ذو المعاقلِ عائدٌ
بأيامنا لذاته ومطاربه
رحم الله شاعرنا النبهاني الذي ماثلت حياته كثيرا حياة الملك الأندلسي الشاعر الفارس المعتمد بن عباد ، الذي دخل في حروب كثيرة ضد الطامعين من الفرنجة ومن المناوئين له أيضا ، حتى فقد ملك أجداده ، لكن النبهاني عاد واستعاد الملك ، على حين خذل الجميع المعتمد بن عباد فخسر ملكه للأبد ، ودفن في المغرب ، خارج الأندلس منطقة حكمه وملكه .


الهوامش :

1 – الصقلاوي ، سعيد بن محمد بن سالم , شعراء عمانيون ، ط1 ، مطابع النهضة ، مسقط 1412 ه – 1992 م ، ص 181 .
2– ديوان النبهاني ص 178 .
3 – السالمي ، الشيخ نور الدين عبدالله بن حميد , مكتبة الاستقامة , مسقط ج1 ص 377
4 – ديوان النبهاني ص 142
5 - النبهاني - الديوان ، انظر مقدمة الديوان للمحقق عز الدين التنوخي ، الطبعة الأولى .
6– المصدر السابق ص 148 .
7 - ديوان النبهاني- ص344، 345.
8 – ديوان النبهاني ، ص 61 ، 62
9 - المصدر السابق ص165، 166.
10– المصدر السابق ، ص 166 ، 167
11– المصدر السابق ص 63

د.سعيدة بنت خاطر الفارسية