.. ومن أهداف وموضوعات تلك السورة أنها أولا بدأت بالبشارة بالفتح المبين، وبشَّرت كذلك بانتشار الإسلام بعد فتح مكة، وتحدثت كذلك عن جهاد المؤمنين فيها، واصطفافهم مع الرسول الكريم، وخلَّدت أيضا بيعة الرضوان التي بايع فيها الصحابة الكرام ـ رضي الله عنهم ـ رسولَ اهلر (صلى الله عليه وسلم) على السمع، والطاعة، والجهاد في سبيل الله حتى الموت، وهي كذلك عُنِيَتْ بأمور الأحكام والتشريع، شأنها شأن السور المدنية التي تعالج الأسس التشريعية في أبواب المعاملات، والعبادات والأخلاق، والتوجيه، ونحوها مما يتطلبه بناء المجتمع واستقراره، كما ذكرت السورة مثلين لأهل الإيمان، وهم صحابة الرسول الكريم(صلى الله عليه وسلم) في كلٍّ من التوراة، والإنجيل، فقدَّمت أولا مثلَهم في التوراة وثنَّتْ بمثلهم في الإنجيل، ثم ذكرت كذلك بيعة الحديبية، ونوَّهت بقدر ومكانة وشأن مَنْ حضرها، وفي نهايتها تحدثتْ عن الرؤيا التي رآها الرسول (صلى الله عليه وسلم) في منامه، ثم حدَّثَ بها أصحابه الكرام بدخول المسجد الحرام بأمان، مؤدين عمرتهم، ومحلِّقين، ومقصِّرين رؤوسهم، لا يخافون، كأنما قد أتَمُّوا ذلك بالفعل، ففرحوا، واستبشروا بهذه الرؤيا التي بشَّرتهم بها الآيات، وبشرهم بها الرسولُ المؤيد من السماء، والمتصل بربه عز وجل، وأكدتْ لهم دخولَ مكةَ آمنين، مطمئنين، وخُتِمَتْ بالثناء على الرسول، وذكرتْ سمات وأوصاف أصحابه الكرام: بأنهم أشداء على الكفار، رحماء بينهم، تراهم ركّعاً سجّداً، يبتغون فضلاً من ربهم ورضوانا، سيماهم في وجوههم من أثر السجود، وأنهم موعودون من ربهم بالمغفرة والفضل، والأجر العظيم، تلك هي بعض أهدافها وموضوعاتها بإيجازٍ شديد.وقد افتُتِحت السورة الكريمة بأسلوب التوكيد:(إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا)، حيث تحملت ثلاثةَ توكيدات، هي: ورود (إنَّ)، ومجيء الجملة اسمية، ومجيء المفعول المطلق المؤكد للفعل والمبين للنوع، كما أن الفاعل هو الضمير هو (نا) العائد على الله تعالى، ليبين عظمة الفتح، وجلال قدره، وسموه، حيث إنه جاء من الله مباشرة، وتولى الله كل أحداث الفتح، فكان فتحاً مبيناً، فالأسلوب بدأ مؤكداً، وأكَّد الجملة الاسمية، ومعلوم أن التوكيد يفيد تثبيت الحكم، وترسيخه في النفس، وتعميقه في الشعور، وتأكيده في الإحساس، وجاء الفعل مسندا إلى نون العظمة (فتحْنا) حيث تحدث الله بذاته العلية أنه هو الذي أنعم بالفتح، وأكَّد القرآن الفعلَ (فتحنا) بالمفعول المطلق لمزيدٍ من ترسيخ، وتثبيت، وتعميق، وتأكيد الفتح في القلوب؛ مما يدفع إلى الفرحة، وشكر الله على تلك النعمة الكبرى، والمنة العظمى، والاطمئنان، والاستقرار النفسي، والروحي، وأنهم عائدون إلى الكعبة، البيت الحرام الذي ربطوا مصيرهم به، وعاشوا من أجل دعوة الناس إليه وزيارته، وعبادة الله فيه.وشبه الجملة:(لك) يشعر بأنه منَّةٌ كبرى من الله لرسوله، وبالطبع نحن ندخل من بعده في المقصودين باتِّباعنا رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم)، وشبه الجملة:(لك) يشعرك كأنه لم يُفتَحْ لنبيٍّ سواه من قبلُ، واللام للاختصاص، والملكية، كأنه فتْحٌ خاصٌّ، ومخصَّص لحبيبه (صلى الله عليه وسلم)،وإننا جميعًا تحت لوائه انضوينا، ودخلنا، وشرُفنا بالاتباع، والاقتداء، فنلنا هذا الفضل، وأخنا بفضل الله ذاك الفتح المبين، و(مبينًا) اسم فاعل من الفعل الرباعي (أبان)، وقد وُصِفَ به الفتحُ، ففيه استعارة مكنية حيث شُبِّه الفتح وهو معنوي بإنسان فصيح، لبق، يستطيع أن يُبِين عن نفسه، ويفصح عن جلال النصر، ويتحدث حديث الحصفاء الفصحاء، وفيه كذلك تشخيصٌ للمعنوي في صورة حسيَّة، وكأنه ماثلٌ أمامك، ينطلق متحدثا، لبقا، مبينًا، قادراً على إمالتك بفصاحته كيفما شاء، فالفتحُ قادر على أن يُفصِح عن نفسه.