.. والله سبحانه وتعالى يخرج الكافر من المؤمن والمؤمن من الكافر، ولا فرق في ذلك بين الأنبياء وغيرهم فإن الله سبحانه وتعالى أخرج قابيل من صلب آدم عليه السلام وهو نبي، وكان قابيل كافراً، وأخرج إبراهيم من صلب آزر وهو نبي ، وكان آزر كافراً، فكذلك أخرج كنعان وهو كافر من صلب نوح وهو نبي، فهو المتصرف في خلقه كيف يشاء، فإن قلت: فعلى هذا كيف ناداه نوح، فقال:(اركب معنا)، وسأل له النجاة مع قوله:(رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً) قلت: قد ذكر بعضهم أن نوحاً (عليه السلام) لم يعلم بكون ابنه كان كافرا، فلذلك ناداه وعلى تقدير أنه يعلم كفره.(تفسير الخازن لباب التأويل في معاني التنزيل2/ 487)، فإذا نوح يعلم أنه كافر فلماذا ناداه؟!.إنّ الحقيقة أن نوحاً إنما حمله على أن ناداه رقة لأبوه، ولعله إذا رأى تلك الأهوال أن يسلم، فينجيه الله بذلك من الغرق ، فأجابه الله عز وجل بقوله:(إنه ليس من أهلك) يعني: أنه ليس من أهل دينك، لأن أهل الرجل من يجمعه وإياهم نسب أو دين أو ما يجري مجراهما، فسأل ربه إنجاء ولده من الغرق، وهو من كمال شفقة الوالد على ولده، وهو لا يعلم أن ذلك محظور، لإصرار ولده على الكفر، فنهاه الله سبحانه وتعالى عن مثل هذه المسألة، وأعلمه أن ذلك لا يجوز، و أن الله عز وجل كان قد وعد نوحاً(عليه السلام) بأن ينجيه وأهله، فأخذ نوح ظاهر اللفظ واتبع التأويل بمقتضى هذا الظاهر ، ولم يعلم ما غاب عنه ولم يشك في وعد الله سبحانه وتعالى فأقدم على هذا السؤال لهذا السبب ، فعاتبه الله عز وجل على سؤاله ما ليس له به علم، وبين له أنه ليس من أهله الذي وعده بنجاتهم لكفره وعمله الذي هو غير صالح، وأعلمه الله سبحانه وتعالى أنه مغرق مع الذين ظلموا ونهاه عن مخاطبته فيهم. (تفسير الخازن لباب التأويل في معاني التنزيل 2/ 487)، ومن الجدير بالذكر أن هناك معركة كلامية بين المفسرين والمؤرخين حول التحقق من هذا الولد الكافر هل هو (يام)، أم هو (كنعان)؟، وقد نَقَلَ الفادي عن البيضاويِّ أَنّ ابنَ نوحٍ الكافرَ الذي رفضَ أَنْ يركبَ مع نوحٍ هو كنعان، وأَنه غَرِقَ مع الكافرين، قال: ومعلومٌ أَنَّ نوحاً لم يكنْ له إِلا ثلاثةُ أَولاد (سام وحام ويافث)، ولهم ثلاثُ زوجات فكان الذينَ خَلَصوا في الفُلْكِ ثمانية: نوحٌ، وزوجَتُه، وأَولادُه الثلاثة، ونساءُ أَولادِه الثلاث، فأينَ قصةُ غَرَق كنعان، ومعلومٌ أَنَّ كنعانَ لم يكن قد وُلِدَ، ولم يكن ابْناً لنوح، بل وَلَدَهُ حامُ بنُ نوح، وذلك بعدَ الطوفان، لقد أَخبرَ القرآنُ عن غَرَق أَحَدِ أَبناءِ نوحٍ (عليه السلام)، فلما كان نوح مع المؤمنين في السفينة، وهي تَجري بهم في موجٍ كالجبال، رأى أَحَدَ أبنائِه واقِفاً في معزلٍ عن الطوفان، فَدَعاهُ إِلى أَنْ يركبَ معهم في السفينة، ولكنَّ الابنَ رفضَ الدعوة، وحالَ الموجُ بينَ الابنِ وأَبيه، وطواهُ في طَيّاتِه، فكانَ من المغرقين! وحزنَ نوحٌ على ما أصابَ ابْنَه وسأَلَ ربَّه مستوضحاً، فأَخبره اللهُ أَنه ليس من أَهْلِه المؤمنين، لأَنه كان كافراً، وكُفْرُهُ قطعَ الصلةَ بينَه وبينَ أَبيه النبي؟ لقد أَبهمَ القرآنُ اسْمَ وَلَد نوحٍ الكافر الذي غَرِق مع الكافرين، كما أبهمه رسولُ الله (صلى الله عليه وسلم) ولا سبيلَ لنا لمعرفةِ اسْمِه لسكوتِ القرآنِ والحديثِ الصحيحِ عنه، والواجبُ علينا أَنْ نُبْقيَه على إِبهامِه نقول: اللهُ تعالى أَعلمُ بأَعدادِهم وأَسمائِهم وتفاصيلِ حياتِهم وقد نَصَّ القرآنُ على أَنَّ اثْنَيْنِ من أَهْلِ وأُسْرَةِ نوحٍ كانا كافرَيْن، ولم يركَبا معه السفينة: امرأَتُه، وابْنُه لما أَغْرَقَ اللهُ ابْنَ نوحٍ الكافرَ، وسأَلَ نوحٌ عنه لامَه اللهُ على ذلك، وأَخبره أَنه ليسَ من أَهْلِه لكُفْرِه، مع أَنه ابْنُه. انظر (القرآن ونقض مطاعن الرهبان 1/ 99).وتعالوا بنا أخوة الإيمان نقرأ هذه النهاية التي تؤثر في كل ذي شعور وإحساس ، ويدمي كلوب كل الناس، ممن يشعر بهذا الأب التذي تشبع نظره بولده وهو يصارع الأمواج، بينما أبوه يناديه وهو لا يبالي، بنداء الأب الحنون، تولي كبره، وتمسك بنهايته العسيرة، وأبوه يراه وهو يفقد السيطرة على الأمواج، وهنا لفتة: من رحمة الله تعالى برسوله نوح ـ عليه السلام ـ أن حال بينهما الموج قبل أن يقترب الموت من ولده، فقد حال بينهما الموج لمنع عن نوح المنظر الصعب، والشدة في خروج روحه، ليهلك الولد الجاحد الفاسق الكافر وهو في معزل عن أبيه، وبعد هذه النهاية انظروا ماذا طلب نوح من ربه؟ (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) (هود ٤٥ ـ٤٦).