توقف بنا الحديث في المرة السابقة عند هذا السؤال: ما هي الأسباب التي أخرجت من ابن نوح الكافر هذه الطباع الغليظة الفظة القاسية، يعلم الهلاك وينظر إليه ويذهب إليه بنفسه، غير مفكر في عواقب ذلك، ولا يتراجع عنه رغم النصح والإرشاد، يا الله.. عمن نتحدث، عن ولد من الأولاد نوح ـ عليه السلام ـ الذين من صلبه، حتى إن هناك من المفسرين من قال: أنه ليس من ولد نوح من صلبه، يقول الفخر الرازي: فيه أقوال: القول الأول: انه ابنه في الحقيقة، والدليل عليه: أنه تعالى نصَّ عليه فقال:(ونادى نوح ابنه)، ونوح أيضاً نصّ عليه فقال:(يا بني) وصرف هذا اللفظ إلى أنه رباه، فأطلق عليه اسم الابن، لهذا السبب صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة، وأنه لا يجوز، والذين خالفوا هذا الظاهر إنما خالفوه، لأنهم استبعدوا أن يكون ولد الرسول المعصوم كافراً، وهذا بعيد، فإنه ثبت أن والد رسولنا (صلى الله عليه وسلم) كان كافراً، ووالد إبراهيم ـ عليه السلام ـ كان كافراً بنصّ القرآن، فكذلك هاهنا، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه ـ عليه السلام ـ لما قال:(ونادى نوح ابنه ..) (نوح ـ ٢٦)، فكيف ناداه مع كفره؟ أجابوا عنه من وجوه، الأول: أنه كان ينافق أباه، فظن نوح أنه مؤمن، فلذلك ناداه ولولا ذلك لما أحب نجاته، والثاني: أنه ـ عليه السلام ـ كان يعلم أنه كافر، لكنه ظن أنه لما شاهد الغرق والأهوال العظيمة فإنه يقبل الإيمان، فصار قوله كالدلالة على أنه طلب منه الإيمان، وتأكد هذا بقوله: (اركب معنا) أي: تابعهم في الكفر واركب معنا، والثالث: أن شفقة الأبوة لعلها حملته على ذلك النداء، ويروى أن علياًـ رضي الله عنه ـ قرأ (ونادى نوح ابنها)،والضمير لامرأته، وقرأ محمد بن علي وعروة بن الزبير ابنه بفتح الهاء، يريد أن ابنها إلا أنهما اكتفيا بالفتحة عن الألف، وقال قتادة سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان ابنه فقلت: إن الله حكى عنه أنه قال:(يا نوح إنه ليس من أهلك) وأنت تقول: ما كان ابناً له، فقال: لم يقل: إنه مني ولكنه قال من أهلي وهذا يدل على قولي، والقول الثالث: أنه ولد على فراشه لغير رشدة، والقائلون بهذا القول احتجوا بقوله تعالى في امرأة نوح وامرأة لوط (ﲏ)، وهذا قول خبيث يجب صون منصب الأنبياء عن هذه الفضيحة لا سيما وهو على خلاف نص القرآن، أما قوله تعالى:(ﲏ) فليس فيه أن تلك الخيانة إنما حصلت بالسبب الذي ذكروه، قيل لابن عباس ـ رضي الله عنهما: ما كانت تلك الخيانة، فقال: كانت امرأة نوح تقول: زوجي مجنون، وامرأة لوط تدل الناس على ضيفه إذا نزلوا به، ثم الدليل القاطع على فساد هذا المذهب، انظر (مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير 17/ 350)، ويقول صاحب (الفصل في الملل والأهواء والنحل 4/ 7) وَقد عق ابْن نوح أَبَاهُ أَكثر مِمَّا عق بِهِ أخوة يُوسُف أباهم، إِلَّا أَن أخوة يُوسُف لم يكفروا، وأَن ولد نوح كَانَ كافرا بنص الْقُرْآن عمل عملاً غير صَالح، فَلَو كَانَ أَوْلَاد الْأَنْبِيَاء أَنْبيَاء لَكَانَ هَذَا الْكَافِر المسخوط عَلَيْهِ نَبياً، وحاشا لله من هَذَا، فالابن يخلق من ماء الأب، ومن أولاد الأنبياء من كفر، ككعنان بن نوح ـ وقيل: يام ـ وابن لقمان، فصار بالأولى جواز نبي من كافر، قالوا: هو ليس ابناً لنوح، لأن الله تعالى قال: (إنه ليس من أهلك)، قلنا: هذا خطأ من وجهين، أحدهما:أن نوحاً ـ عليه السلام ـ ذكر شيئين أحدهما:(يا بني)والثاني: قوله:(اركب معنا)، فصدقه الله تعالى في البنوة بإعادته سبحانه الضمير إليه ونفي الأهلية عنه، إن ابنك ليس محسوباً من أهلك الذين استوجبوا النجاة لكفره، ولو لم يكن ابناً لقال له: ليس ابنك، لأنه كان يكون أوضح في العبارة وفي قطع الحجة، الآخر أنه لو لم يكن ابناً له لكانت زوجته زانية، وأجلّ الله الأنبياء أن يكون أحد منهم زوج زانية، وأما قوله تعالى عنها وعن امرأة لوط(ﲏ) هو في الدين، لا في الفراش،(الحجج الباهرة في إفحام الطائفة الكافرة الفاجرة ص: 313)، ومما يؤكد أنه ولده من صلبه ما جاء عن أبي مُعَاوِيَةَ الْبَجَلِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ جاء إليه رجلٌ فسأله، فقال: أرأيتك ابن نوح أَمِنْهُ، فسبح طويلا، ثم قال: لا إله إلا الله، يحدث الله محمداً(ونادى نوحٌ ابنه)، وتقول ليس منه، ولكنه خالفه في العمل، فليس منه من لم يؤمن، ولم يقطع الأنساب بينهم فدلَّ، ذلك على أن الأنساب ليست من الدين في شيء، الأنساب ثابتة لا تزول، والدين شيء يدخلون فيه أو يخرجون منه، ونسب ابن نوح إلى أبيه، وابنه كافر(تفسير الإمام الشافعي 2/ 973)، وقال ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير والضحاك وأكثر المفسرين: إنه ابن نوح من صلبه، وهذا القول هو الصحيح، إنما خالف هذا الظاهر من خالفه، لأنه استبعد أن يكون ولد نبي كافراً، وهذا خطأ ممن قاله، لأن الله سبحانه وتعالى خلق خلقه فريق في الجنة وهم المؤمنون، وفريق في السعير وهم الكفار.