ابن نوح:لقد ذكر الله تعالى قصة ابن نوح ـ عليه السلام ـ وهي قصة عجيبة تتيه لها الألباب، وتغوص في أعماق الأحاسيس والمشاعر، حيث يأخذها العباب الفكري، تتلاطم بأمواج البحار العاطفية، التي لا تهدأ أبداً، إنها لا تخرج من هذا تناقض أبداً، كلما خرجت من ركن سقطت في أركان، كلما أقنعت العقل بفكرة، انهارت تلك الفكرة في وادٍ عميقٍ من عاطفة الأبوة، وذابت كجبال الثلج في شدة الحر، يا الله إنها الصاعقة، التي إذا ما اقتربت منها صعقك الخوف القلبي، ويذهب بسمعك قوت صوتها، وهي تقولك:(ابني!! ابني!؟)، وقد لا يشعر بك إلا من ذاق طعم البنوة، ورق قلبه لبكاء طفله، وعرض على الطبيب المداوي أن يأخذ من جسده ما يشاء حتى ينقذ ولده إن أصابه مكروه،حقاً إنها عاطفة لا يعلم قدرها إلا من ذاق حلاوتها، إنها الشجرة التي يسقيها الأب بعرقه وعروقه، وماله ومآله، وحلّه وترحاله، وحلله وحاله، وأرضه وفرضه،بعرضه ومرضه، بعيّه ووعيه، وطوله وعرضه، ونومه ولمومه، وفهمه وهمه، وعمره وعمله، شجرة إذا ذبل ترعرعت، وإذا شاب شبت، وإذا اضمحل اكتملت، ولا يعيه من ذلك شيء، ولأنه في حب فلذة كبد لا يتحكم في مشاعره، وعلى ذلك تجد ألف ألف دليل، فهل من أب يجلس ساكناً وولد جائع أو مريض، بل قد لا يسكن له متحركاً إذا أراد ولده وثمرة عمره يحتاج إلى شيء ولو كان قليلاً، ثم بعد ذلك يجد تلك الشجرة بعد تطاولت فروعها، وترعرت أغصانها، وكادت أن تنتج ثمارها، وهنا تأخذ الفرحة بقلبه، فقد انتظر هذه اللحظة، منذ أن احتضن ولده فور ولادته، ويأتي وصفي السابق واضحاً، حينما يجد ما بناه قد انهار، وقطع ما زرعه من أشجار، وحرم ما تمنته نفسه من ثمار، فقد خذله الولد، وخرج عن طوعه، وانسق عن صفه، وخالف بغطرسة رأيه، وأصر على البوار، ولم لأبيه دار، وانتهى بينهما الحوار، فماذا يكون الحال؟ خاصة إذا كان الأب من نوع خاص، فلم يكن الأب فظّاً غليظاً، ولم يكن قاسياً مغيظاً، بل ولم يكن صعباً جامداً، كلا والله .. بل إنه كان ذا قلب رؤوف، بالإحسان والإشفاق موصوف، نبي ورسول، خير أب وأفضل مُربٍّ، دعا قومه فعصوه، وهو يتمنى أن يجد من ينصره، ويكون ولده ممن يرفضه، ويقاوم دعوته، ويرفض حكمته، إنها الصورة المقلوبة التي ترى فيها أماكن الأشخاص مختلفة ومتغايرة ومغلوطة ومقلوبة، يقف الابن في مكان خاطئ، ولكنها الحقيقة، فالصورة ليست مقلوبة، بل إنها معتدلة، وما يأخذ بلبابك أن تجد الأب العطوف، وقد وقف ولد فيمن يحاربه بين الصفوف،الأب الذي أسلم على يديه الشيطان، لا يجد بُدّاً من فائدة من ولده إطلاقاً، إنه نوح ـ عليه السلام ـ أول الرسل، نوح أول أولي العزم، نوح أطول الأنبياء عمراً، نعم (نوحٌ أَطولَ الأَنبياء عُمْرا حتى قال بعضهم كان عُمْرُه أَلفا وثلثمائة سنة، ولمّا نزل الوَحْىُ عليه كان عمره ثلثَمائة وخمسين سنة، فلبث أَلف سَنَةٍ/ إِلا خمسين عاما يَدْعُوهم، وقالوا ما أَسْلَمَ من الشياطين إِلاَّ شيطانان، شيطان نبيّنا محمّد ـ صلّى الله عليه وسلَّم ـ وشَيْطان نوح ـ عليه السّلام ـ وقال إِبْلِيسُ لنوحٍ ـ عليه السّلام:(خذْ مِنىِّ خَمْساً، فقال لا أُصَدِّقك، فأُوحِىَ إِليه أَنْ صَدِّقْه في الخَمْس، قال: قلْ، قال: إِيّاك والكِبْرَ فإِنِّي وقعت فيما وقعت بالكِبْرِ. وإِيّاكَ والحَسَدَ، فإِنَّ قابِيلَ قَتَلَ هابِيلَ أَخاه بالحَسَد. وإِيّاكَ والطَّمَعَ، فإِنّ آدم أَوْرثَه ما أَورثَه بالطَّمع، وإِيَّاكَ والحِرْص فإِنّ حوَّاء وقعت فيما وقعت بالحِرْص، وإِيَّاكَ وطولَ الأَمل فإِنَّهما وقَعا فيما وقعا بطولِ الأَمل). (بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز 6/ 30).يا الله ـ تأملوا القرآن إخوة الإسلام ـ انظروا إلى أحوال أولاد الأنبياء في القرآن، ليتبين لكم، ما عليه أولادكم، إن من بينهم عاص أو من مخالف،أو لا يقبل النصح أو يبطئ في التنفيذ للأمر، أو أنه لا يقبل على التعليم، أو لا يستجيب لما له فائدة،يقول الطبري:لما فار التنور، حمل نوح في الفلك من أمره الله، وكانوا قليلا كما قال الله، وحمل فيها من كل زوجين اثنين مما فيه الروح والشجر، ذكر وأنثى، فحمل فيه بنيه الثلاثة: سام وحام ويافث ونساءهم، وستة أناس ممن كان آمن به، فكانوا عشرة نفر، نوح وبنوه وأزواجهم، ثم أدخل ما أمره به من الدوابّ، وتخلف عنه ابنه(يَام) وكان كافرًا، فلما دخل وحمل معه من حمل، فدخل نوح ومن معه الفلك، كثر الماء واشتد وارتفع،فجعلت الفلك تجري به، وبمن معه في موج كالجبال، ونادي نوح ابنه الذي هلك فيمن هلك، وكان في معزلٍ حين رأى نوحٌ من صدق موعد ربه ما رَأى، فقال:(يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين)، وكان شقيًّا قد أضمر كفرًا، (قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء)، وكان عَهِد الجبال وهي حِرْزٌ من الأمطار إذا كانت، فظنّ أن ذلك كما كان يعهد، قال نوح:(لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين)(جامع البيان 15/ 314)، تأملوا معي هذا ـ إخوة الإيمان ـ هذه الصورة الأسرية التي رسمها القرآن الكريم، كيف أن ابن نوح الذي تربى على عين أبيه،وفي كنفه، وتحت رعايته، ولم يكن هناك من دواعٍ ولا ضغوطٍ تجعله يفعل بنفسه ولا بأبيه هذا، فلم يكن الأب فظّاً ولا غليظاً، ولم يكن قاسياً ولا صعباً، بل إنه كان عطوفاً رحيماً به، وبمن معه من إخوته، تربى في أحضان النبوة، وترعرع في جنبات الهدي والصلاح،إذن فما هي الأسباب التي دعته إلى ذلك؟ وللإجابة عن هذا السؤال يكون لقاؤنا في المرة القادمة.