محمود عدلي الشريف*لقد أودع الله تعالى هذا الكون ألواناً وأشكالاً وأوصافاً غاية في الروعة والجمال، ومن بين هذه الألوان وتكملة لسلسلة حديثنا حول الألوان في كتاب الله تعالى، يكون الحديث في هذه الحلقة عن (اللون الأصفر)، وهذا اللون الجميل الجذاب الذي جمع بين النقيضين، بين البشر واليسر، وبين العسر والخسر، جعله الله تعالى في كثير من مخلوقاته، وخاصة الورد والزهور، فسبحان الذي نوّع وصنّف، ويكفي هذا اللون شرفاً أن هذا اللون (اللون الأصفر) في القرآن الكريم أول لون، ففي ترتيبه الأول من بين الألوان التي ذكرت في كتاب الله تعالى، وقد ذكر الله تعالى اللون الأصفر باختلاف تراكيبه ومشتقاته خمس مرات في كتابه العزيز، وهي كالتالي: الأولى:(إنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَاتَسُرُّ النَّاظِرِينَ) (البقرة ـ ٦٩)،وهي صفة مشبّهة مؤنّث أصفر، والهمزة زائدة للتأنيث، وزنه فعلاء، و(صفراء) نعت لـ(بقرة) مرفوع مثله، (فاقع) نعتٌ ثان لـ(بقرة) مرفوع مثله، ويجوز أن يكون خبراً مقدّماً، و(لونها) مبتدأ مؤخّر، والجملة نعت لـ(بقرة)، و(لون) فاعل لاسم الفاعل فاقع مرفوع، (ها) ضمير مضاف إليه،(انظر "الجدول في إعراب القرآن 1/ 157")،وجاء اللون الأصفر هنا يصف بقرة بني إسرائيل التي أحياء الله القتيل على إثر ضربهم إياه ببعض لحمها، فقام وأخبر عمن قتله، واللون الأصفر كان من أوصاف تلك البقرة، قالوا مجادلين مراوغين:(ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنهَا) أي: يبين اللون الذي يريدها أهي الصفراء أم السوداء، أم الخليط من ذلك، ولقد بيّن سيدنا موسى اللون، فقال:(إِنَّهُ يَقُولُ) مسنداً القول لرب العالمين:(إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) الصفراء هي ما فيها لون الصفرة، ومعنى (فَاقِعٌ لوْنُهَا) أي: خالص صافٍ له بريق ولمعان، ولذلك يسر الناظرين، أي: تتلقاه الأنظُر بالسرور (انظر "زهرة التفاسير 1/ 267")، وجاء في "الموسوعة القرآنية 8/ 319":(الصفراء لون من الألوان التي بين السواد والبياض، وهى إلى السواد أقرب، ولذلك قد يعبر بها عن السواد، قال الحسن في قوله:(بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها)أي: سوداء، وقيل: بل أراد به الصفر المخرج من المعادن، ومنه قيل للنحاس صفر وليبيس البهمى صفار، وقد يقال: الصفير للصوت حكاية لما يسمع ومن هذا صفر الإناء إذا خلا حتى يسمع منه صغير لخلوه ثم صار متعارفاً في كل حال من الآنية .. وغيرها، وسُمّي خلو الجوف والعروق من الغذاء صفراً، والشهر يسمى صفراً: لخلو بيوتهم فيه من الزاد، والصفري من النتاج، ما يكون في ذلك الوقت، ويقول الشيخ الشعراوي في "تفسير الشعراوي 1/ 394": حثوا عن سؤال آخر: ما لونها؟ كأن الله تبارك وتعالى حين حدثهم عن السن فتحوا الأبواب ليسألوا ما لونها؟ مع أنه سبحانه وتعالى قال لهم:(فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ)، فلم يفعلوا بل سألوا: ما لونها؟ "قَالَ:(إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا) يعني صفرة شديدة ثم قال:(تَسُرُّ الناظرين) يعني: أن كل من ينظر إليها يُسر لنضارتها ونظافتها، وحسن مظهرها وتناسق جسده، وصف البقرة بأنها صفراء هذا لون معروف، وفي الألوان لا يمكن أن تحدد لونا إلا برؤيته، ولذلك فإن المحسَّات في الألوان لابد أن تسبق معرفتها وبعد ذلك تأتي باللون المطلوب، لذلك لا يقال صفراء فقط لأنك لا تستطيع تحديده، لأن اللون الأصفر له درجات لا نهاية لها، ومزج الألوان يعطيك عدداً لا نهائياً من درجاتها، فإذا سمعت صفراء يأتي اللون الأصفر إلى ذهنك، فإذا سمعت (فاقع) فكل لون من الألوان له وصف يناسبه يعطينا دقة اللون المطلوب، (فاقع) أي: شديد الصفرة، أظن أن المسألة قد أصبحت واضحة، إنها بقرة لونها أصفر فاقع تسر الناظرين ..اهـ، والثانية:(كأنه جِمالَتٌ صُفْرٌ) (المرسلات ـ ٣٣)، الصفرة:اللون دون الحمرة، أو بين السواد والبياض، والوصف: (أصفر وصفراء)، والفعل (أصفر: يصفر)، فهو مُصفّر، انظر:(معجم وتفسير لغوى لكلمات القرآن 2/ 445)،وجاء في كتاب (روح اليان 10/ 288)(كأنه جِمالَتٌ صُفْرٌ) جمع (جمل) كحجارة فى جمع حجر والتاء لتأنيث الجمع او اسم جمع كالحجارة والجمل ذكر الإبل والناقة انثاه وإذا لم يكن فى جماعة الإبل أنثى يقال جمالة بالكسر والصفر جمع أصفر والصفرة لون من الألوان التي بين السواد والبياض وهى ان البياض أقرب ولذلك قد يعبر بها عن السواد والمعنى كأن كل شررة جمل أصفر أو كجمل اسود لان سواد الإبل يضرب الى الصفرة كما قيل لبعض الظباء آدم لان بياضها تعلوه كدرة ولان صفر الإبل يشوب رؤوس اشعارها سواد، فقد شبه الشرر، حين ينفصل من النار، في عظمته، بالقصر وحين يأخذ في الارتفاع والانبساط، لانشقاقه عن أعداد غير محصورة، بالجمال، لتصور الانشقاق والكثرة والصفرة والحركة المخصوصة، وقد روعي الترتيب في التشبيه، والقصور والجمال يشبّه بعضها ببعض، فالتشبيه الثاني بيان للتشبيه الأول، على معنى أن التشبيه بالقصر كان المتبادر منه إلى الفهم العظم فحسب، كذا في "الجدول في إعراب القرآن 29/ 205" ومعناه:"أي أن هذه النار يتطاير منها شرر متفرّق في جهات كثيرة، كأنه القصر عظماً وارتفاعاً، وكأنه الجمال الصفر لوناً وكثرة وتتابعاً وسرعة حركة وفي اللحظة التي يستغرق فيها الحس بهذا الهول، يجيء التعقيب المعهود:(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) "الموسوعة القرآنية خصائص السور11/ 7"، والثالثة:(وَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً)ﱠ(الروم ـ ٥١)،"مصفرّاً: اسم فاعل من الخماسيّ اصفرّ"، وقد يكون اسم مفعول فالوزن واحد بسبب تضعيف الراء، فإذا فكّ الإدغام ظهر الفرق بين اسم الفاعل واسم المفعول في اللفظ، وزنه مفعلّ بضمّ الفاء وتشديد اللام"(الجدول في إعراب القرآن 21/ 63)، والمعنى كما يقول ابن كثير:"وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً": يَابِسَةً عَلَى الزَّرْعِ الَّذِي زَرَعُوهُ، وَنَبَتَ وَشَبَّ وَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً أَيْ: قَدِ اصْفَرَّ وَشَرَعَ فِي الْفَسَادِ لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ أَيْ بَعْدَ هَذَا الْحَالِ يَكْفُرُونَ أَيْ يَجْحَدُونَ مَا تَقَدَّمَ إِلَيْهِمْ مِنَ النعم " مختصر تفسير ابن كثير 2/ 59"، والرابعة: (ثُمَّ يَهِيجُ فتراه مُصْفَرًّا ..) (الزمر ـ ٢١)، جملة" تراه مصفّرا" في محلّ رفع معطوفة على جملة يهيج، أي: فيصفرّ أي يجعله الله أصفر "الجدول في إعراب القرآن 23/ 168"، ويُخْبِرُ تَعَالَى أَنَّ أَصْلَ الْمَاءِ فِي الْأَرْضِ من السماء، فَإِذَا أَنْزَلَ الْمَاءَ كَمَن فِي الْأَرْضِ، ثُمَّ يَصْرِفُهُ تَعَالَى فِي أَجْزَاءِ الْأَرْضِ كَمَا يَشَاءُ، وَيُنْبِعُهُ عُيُونًا مَا بَيْنَ صِغَارٍ وكبار، عن ابن عباس قَالَ: لَيْسَ فِي الْأَرْضِ مَاءٌ إِلَّا نَّزَّلَ مِنَ السماء، ولكن عروق الْأَرْضِ تُغَيِّرُهُ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:(َسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ)، فَيَسْكُنُ فِي قَرَارِهَا، فَتَنْبُعُ الْعُيُونُ مِنْ أَسَافِلِهَا، وقوله تعالى:(ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ) أَيْ: ثُمَّ يُخْرِجُ بِالْمَاءِالنَّازِلِ مِنَ السَّمَاءِ، وَالنَّابِعِ مِنَ الْأَرْضِ (زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ) أَيْ: أَشْكَالُهُ وَطُعُومُهُ، وَرَوَائِحُهُ وَمَنَافِعُهُ،(ثمَّ يَهِيجُ) أَيْ: بَعْدَ نضارته وشبابه يكتهل، فنراه مُصْفَرًّا قَدْ خَالَطَهُ الْيُبْسُ، (ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً) أَيْ: ثُمَّ يَعُودُ يَابِسًا يَتَحَطَّمُ، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الْأَلْبَابِ) أَيِ: الَّذِينَ يَتَذَكَّرُونَ بِهَذَا، فَيَعْتَبِرُونَ إِلَى أَنَّ الدُّنْيَا هَكَذَا تَكُونُ خضرة ناضرة حَسْنَاءَ، ثُمَّ تَعُودُ عَجُوزًا شَوْهَاءَ، وَالشَّابُّ يَعُودُ شيخاً هرماً، كبيراً ضعيفاً، وَبَعْدَ ذَلِكَ كُلِّهِ الْمَوْتُ، "مختصر تفسير ابن كثير2/ 217"، والخامسة:(كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ..)(الحديد ـ ٢٠)، مُصفرّاً: حال منصوبة من ضمير الغائب في تراه، في قوله تعالى:(كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ) استعارة التمثيلية، فقد شبه حال الدنيا، وسرعة انقضائها، مع قلة جدواها، بنبات أنبته الغيث، فاستوى واكتهل، وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة الله فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليه العاهة، فهاج واصفر وصار حطاما، عقوبة لهم على جحودهم. "الجدول في إعراب القرآن 27/153".*[email protected]