من الألوان التي ذكرت في كتاب الله تعالى اللون (الأخضر)، وهو غاية في الجمال والإبداع، ويكفيه ما أودع الله تعالى فيه من أنه دليل على الحياة، (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّـهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّـهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ) (الحج ـ ٦٣)، أليس هذا مما ميز الله تعالى به اللون الأخضر في القرآن الكريم بميزات أكثر من غيره من أي لون آخر، فهو لون ـ في رأيي ـ تطمئن إليه النفس، ويميل إليه الفؤاد، ويحبه القلب وتهواه الأعين، ويكفي هذا اللون من التشريف أن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كان يحبه، فقد روى ابن السني وأبو نعيم عن ابن عباس ـ رضي الله تعالى عنهما ـ قال: (كان أحبّ الألوان إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الخضرة، وكان يعجبه النظر إلى الخضرة، والماء الجاري والوجه الحسن) (حكم الألباني: ضعيف انظر حديث رقم:4581 في ضعيف الجامع)، وروى أبو نعيم عن عائشة ـ رضي الله تعالى عنها ـ قالت:(كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعجبه النّظر إلى الخضرة)، لطيفة: قال بعض العلماء:(إنّ الطبيعة لتمل الشّيء الواحد إذا دام عليها، ولذلك اتّخذت ألوان الأطعمة، وأصناف المشّروبات، وأنواع الطيب)، وقيل لأبي سليمان الدّارني: ما بالكم يعجبكم الخضرة؟ فقال: لأن القلوب إذا غاصت في بحار الفكرة غشيت الأبصار، فإذا إلى الخضرة عاد إليها نسيم الحياة ..اه)، (انظر "سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد لمحمد الصالحي، الباب السابع عشر في خروجه ـ صلى الله عليه وسلم ـ لبساتين بعض أصحابه ومحبته لرؤية الخضرة وإعجابه "ج9 ص: 393، تحقيق وتعليق: الشيخ عادل أحمد عبدالموجود، الشيخ علي محمد معوض، الناشر: دار الكتب العلمية بيروت ـ لبنان، الطبعة: الأولى 1993م)، وقد جاء اللون الأخضر في القرآن الكريم بمشقاته بين (الاسم والصفة والإفراد والجمع) ما يقارب ثماني مرات وتفصيلها كالتالي: أولاً: لفظ (الأخضر) الاسم العلم المفرد المعرف بأل وجاء مرة واحدة:(الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ) (يس ـ ٨٠)، (الأخضر) اسم دال على اللون ويستعمل في مجال الوصف وزنه أفعل، (الجدول في إعراب القرآن 23/ 37)، وقوله تعالى:(الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً) نبّه تعالى على وحدانيته، ودل على كمال قدرته في إحياء الموتى بما يشاهدونه من إخراج المحرق اليابس من العود الندي الر طب، وذلك أن الكافر قال: النطفة حارة رطبة بطبع حياة، فخرج منها الحياة؟! والعظم بارد يابس بطبع الموت ،فكيف تخرج منه الحياة؟! فأنزل الله تعالى:(الذي جعل لكم من الشجر الأخضر ناراً) أي: إن الشجر الأخضر من الماء والماء بارد رطب ضد النار وهما لا يجتمعان، فأخرج الله منه النار، فهو القادر على إخراج الضد من الضد، وهو على كل شيء قدير.. (تفسير القرطبي 15/ 59)، ثانياً : لفظ (جمع خضراء مؤنّث أخضر)، وذكر أربع مرات في القرآن الكريم، الأولى: في سورة يوسف كلمة (خُضُر) وهي جمع خضراء مؤنّث (أخضر)، صفة مشبّهة من (خضر ـ يخضر) باب (فرح) وزنه (أفعل) والمؤنّث (فعلاء) والجمع (ُفعل) بضم الفاء وسكون العين، و(خضر) نعت لسنبلات مجرور، كما في (الجدول في إعراب القرآن 12/438)، والمعنى أي: وقال ملك مصر في ذلك الوقت لكبار رجال مملكته، إني رأيت فيما يرى النائم (سبع بقرات) قد امتلأن شحماً ولحماً (يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ) أي: يأكل هذه البقرات السبع السمان، سبع بقرات أخرى عجاف أي: مهازيل ضعاف، ورأيت أيضاً فيما يرى النائم (سبع سنبلات خضر) قد امتلأت حبّاً، ورأيت إلى جانبها سبع سنبلات (أُخر يابسات) قد ذهبت نضارتها وخضرتها، ومع هذا فقد التوت اليابسات على الخضر حتى غلبتها، (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) أي: الأشراف والعلماء من قومي (أفتوني في رؤياي) أي: فسروا لي رؤياي هذه وبينوا لي ما تدل عليه، (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤيا تَعْبُرُونَ) أي: إن كنتم تعرفون تفسيرها وتأويلها معرفة سليمة، وتعلمون تعبيرها علما مستمر (التفسير الوسيط للطنطاوي 7/ 367)، والثانية في سورة (يوسف) أيضاً الآية (48) وهي كالأولى في الوزن والإعراب والوصف، والثالثة في سورة الرحمن، الآية (٧٦)، (على رفرفٍ) متعلقان بمتكئين و(خُضر) نعت، و(عبقري) عطف على رفرف، و(حسان) نعت لرفرف خضر وعبقري، (رَفْرَفٍ) جمع رفرفة أي: بسط أو وسائد فهو اسم جمع أو اسم جنس جمعي، وفي القاموس، و(الرفرف) ثياب خضر تتخذ منها المحابس وتبسط، والعبقري الكامل من كل شيء وقال الخليل: النفيس من الرجال وغيرهم .. (انظر "إعراب القرآن وبيانه" لمحيي الدين درويش9/ 420)، قال ثعلب: إنما لم يقل: أخضر، لأن الرَّفرف جمع، واحدته: رفرفة، كقوله: (الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً)، ولم يقل: الخُضْر، لأن الشجر جمع، تقول: هذا حصىً أبيض، وحصى أسود، واختلف المفسرون في المراد بالرَّفرف على ثلاثة أقوال: أحدها: فضول المجالس والبُسُط، رواه العوفي عن ابن عباس، وقال أبو عبيدة: هي الفُرُش والبُسط، وقال النّقّاش: الرّفرف: المجالس الخُضْر فوق الفْرُش. والثاني: أنها رياض الجنّة خضراء مخصبة. والثالث: أنها الوسائد، قاله الحسن، (انظر "زاد المسير في علم التفسير" لابن الجوزي 4/ 217 )، والرابعة: في سورة الإنسان، الآية (٢١)، قرأ نافع وحفص عن عاصم (خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) بالرفع، وقرأ حمزة والكسائي بالجر، وقرأ ابن كثير وعاصم من رواية أبي بكر بجر (خضر) ورفع (إستبرق)، وقرأ أبو عمرو وابن عامر برفع (خضر) وجر إستبرق، ومن رفع (خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) ردهما على (ثِيَابُ)، فـ(خُضْرٌ) وصف، و(وَإِسْتَبْرَقٌ) عطف، ومن رفع (خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ) ردهما على (ثِيَابُ)، وعليه ـ فـ(خُضْرٌ) وصف، (وَإِسْتَبْرَقٌ) عطف، ومن كسرهما ردهما على (سُنْدُسٍ) ـ جر بالإضافة ـ ومن جر (خُضْر) ورفع (سندس) رد (خُضْرٌ) إلى (سُنْدُسٍ)، ورد (إِسْتَبْرَقٌ) إلى (ثِيَابُ)، ومن رفع (خُضْرٌ) وجر (إِسْتَبْرَق) رد (خُضْرٌ) إلى (ثِيَابُ) و(إِسْتَبْرَقٌ) إلى (سُنْدُسٍ)، وهذه القراءة أجود القراءات، انظر (النكت في القرآن الكريم ص: 532)، ثالثاً: لفظ (مخضّرة) مؤنّث مخضرّ، من اخضرّ الخماسيّ: وجاء مرة واحدة في سورة الحج، الآية (٦٣)، (الفاء هنا ليست فاء السببيّة)، لأنّ إصباح الأرض مخضرّة لا يتسبّب عن الرؤية، وإنّما يتسبّب عن نزول المطر نفسه، وقيل: الفاء في هذه الآية للسببية، ثمّ إنّ الاستفهام معناه : الإخبار والتقرير، أي: قد رأيت أنّ الله أنزل .. إلخ، وتصبح بمعنى أصبحت، أو لدلالة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان، كما يقول الزمخشري .. والجملة عند أبي البقاء خبر لمبتدأ محذوف هو ضمير القصة المقدّر والجملة الاسميّة مستأنفة، عطف المضارع المستقبل على الماضي في قوله تعالى:(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً) لعدول عن الماضي إلى المضارع لإفادة بقاء أثر المطر زماناً بعد زمان، كما تقول: أنعم عليّ فلان عام كذا، فأروح وأغدو شاكراً له، ولو قلت: فرحت وغدوت لم يقع ذلك الموقع، أو لاستحضار الصورة البديعة، وجملة (تصبح الأرض ..) في محلّ رفع معطوفة على جملة أنزل، أما "مخضّرة" فهي: مؤنّث مخضرّ، اسم مفعول من اخضرّ الخماسيّ، ويحتمل أن يكون اسم فاعل إذا أسندنا عمل الاخضرار إلى الأرض نفسها، وزنه مفعلّ بضمّ الميم ولم تظهر الفتحة على اللام الأولى بسبب التضعيف (الجدول في إعراب القرآن 17/ 139 بتعديل في ترتيب النص).
ويتجدد بنا الحديث ـ إن شاء الله تعالى ـ في الحلقة القادمة حول لون آخر من الألوان في القرآن.


محمود عدلي الشريف
[email protected]