محمود عدلي الشريف*من الألوان التي ذكرت في كتاب الله تعالى اللون (الأسود)، وهو لون عجيب غريب، له مميزات خاصة عن باقي الألوان ، يقولالشيخ الشعراوي في تفسيره (7/ 4455) الليل أسود، والنهار فيه الضوء، ونعلم أن اللون الأسود ليس من ألوان الطيف، وكذلك اللون الأبيض ليس من ألوان الطيف، لأن ألوان الطيف:(الأحمر، البرتقالي، الأصفر، الأخضر، الأزرق، النيلي، البنفسجي)، واللون الأسود يأخذ ألوان الطيف ويجعلها غير مرئية، لأنك لا ترى الأشياء إلا إذا جاءت لك منها أشعة لعينيك، واللون الأسود يمتص كل الأشعة التي تأتي عليه فلا يرتد إلى العين شعاع منها فتراه مظلماً، فالأسود يمتص الأشعة فلا يخرج منه شعاع لعينيك، والأبيض يرد الأشعة ولا يخرج منه شعاع لعينيك، وقد جاء اللون الأسود في القرآن الكريم بمشتقاته بين (الاسم الفعل والصفة والإفراد والجمع) ما يقارب سبع مرات، وتفصيلها كالتالي: أولاً: لفظ (الأسود) الاسم العلم المفرد المعرف بأل وجاء مرة واحدة:(أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللَّـهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّـهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّـهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (البقرة ـ ١٨٧)، وكما هو واضح من معنى الآية الكريمة أنه الله تعالى ذكر الأسود هنا والمقصود به ظهور الخيط الأبيض من الخيط الأسود في وقت خروج الفجر الصادق الذي تظهر عنده الماهية الحقيقية للأشياء، ويتميز اللون الأسود عن الأبيض، و(الأسود) صفة مشبّهة من الثلاثي (سود يسود) باب (فرح)، وزنه (أفعل) انظر (الجدول في إعراب القرآن 2/ 382)، وجاء في )موجز دائرة المعارف الإسلامية 28/ 8854( و(إسْوَدّ) بمعنى أصبح أسود اللون، و(أسْوادّة) أي: أصبح شديد ـ حالك ـ السواد كالأبنوس ـ وهو ضد الأبيض ـ وفى القرآن تظهر كلمتا (أبيض وأسود) متتابعتين للتعبير عن التضاد بين النور والظلمة لا التضاد بين اللونين الأبيض والأسود، وثانياً: لفظ (سود) اسم علم جمع منكر، وجاء مرة واحدة، ومعنى (غرابيب) جمع غربيب: وهو اسم بمعنى الأسود الفاحم المتناهي في السواد، وزنه فعليل بكسر الفاء ووزن غرابيب (فعاليل)، و(سود) جمع أسود زنة (أفعل)، ووزن سود فعل بضمّ فسكون، والجمع قياسيّ، شأنه شأن بيض وحمر، ولما كانت هذه الألوان الثلاثة في الظهور للعين طرفين وواسطة بينهما، فالطرف الأعلى في الظهور البياض، والطرف الأدنى في الخفاء السواد، والأحمر بينهما، على وضع الألوان والتراكيب، وكانت ألوان الجبال لاتخرج ـ في الغالب ـ عن هذه الألوان الثلاثة، أتت الآية الكريمة على هذا التقسيم، فحصل فيها التدبيج، مع صحة التقسيم وهي مسرودة على نمط متعارف، مسوقة للاعتداد بالنعم، (انظر الجدول في إعراب القرآن 22/ 270)، من هنا جاء الغربيب الأسود لون لبعض أنواع الجبال وبعض ألوانها، ثالثاً: لفظ (مسودّا) اسم الفاعل ـ من الفعل اسودّ الخماسيّ، وزنه (مفعلّ)، بضمّ الميم وتشديد اللام وفتح العين ـ وجاء مرتين: ـ الأولى:(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ( (النحل ـ ٥٨)، و(ظلّ) فعل ماض – ناسخ، (وجهه) اسم ظلّ مرفوع، و(الهاء) مضاف إليه، (مسودّا) خبر ظلّ منصوب، وهو اسم فاعل من الفعل اسودّ الخماسيّ، وقيل: هو اسم مفعول، والظاهر أنّه اسم فاعل لأن اسم المفعول يحتاج إلى الجارّ، وجملة (ظلّ وجهه مسودّا ..) لامحلّ لها جواب شرط غير جازم (انظر الجدول في إعراب القرآن 14/ 339)، والثانية:(وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَـٰنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) (الزخرف ـ ١٧)، وإعرابها كما هو في الآية السابقة، (مسودّا) اسم فاعل من الفعل اسودّ الخماسيّ، وهو خبر ظل، والواضح من معناهما كما ذكر ابن عطية في تفسيره المسمى (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 3/401)، وقوله:(ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا) عبارة عن العبوس والتقطيب الذي يلحق المغموم، وقد يعلو وجه المغموم سواد وربدة وتذهب شراقته، فلذلك يذكر له السواد، وكَظِيمٌ بمعنى كاظم كعليم وعالم، والمعنى: أنه يخفي وجده وهمه بالأنثى، وكان يلزم عندهم أن يكون لأنفسهم ما يشتهون، والمراد به: الذكران من الأولاد.. اهـ، رابعاً: لفظ (مسودّة) صيغة المؤنَّث على وزن (مفعلة) من الفعل (سوَّد) لا من الفعل (اسْوَدَّ) ولذا يأتي اسم المفعول بفتح السين وتشديد الواو وفتحها (وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّـهِ وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ) (الزمر ـ ٦٠)، يحتمل أن تكون وجوههم مسودّة مفعولاً ثانياً لترى، أو تكون حالاً، فإن جعلت (رأيت) المتعدية إلى مفعولين، كانت الجملة التي هي (وجوههم مسودة) في موضع نصب بكونها في موضع المفعول الثاني، وإن جعلت (رأيت) بمنزلة (أبصرت) كانت الجملة في موضع نصب بالحال، ولو أبدلت (وجوههم) من (الذين) فنصبت (مسودةً) كانت على القول الأول مفعولاً ثانياً، وعلى القول الآخر حالاً، كذا جاء في (المسائل الحلبيات لأبي علي الفارسيّ ـ محقق ـ ص: 63)، والرفع بالابتداء أقيس، قاله سيبويه، وقال: إنه الأكثر في كلامهم، ومنه (وجوههم مسودة) بالرفع، قراءة السبعة (انظر) المساعد على تسهيل الفوائد 2/437)، وقال الأخفش:(ترى) غير عامل في قوله:(وجوههم مسودة): إنما هو ابتداء وخبر، الزمخشري: جملة في موضع الحال إن كان (ترى) من رؤية البصر، ومفعول ثان إن كان من رؤية القلب (تفسير القرطبي 15/ 274)، وهنا سؤال يطل برأسه (هل تسود وجوههم حقيقة؟) ج: يقول ابن عطية:(المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز 4/ 539) وظاهر الآية:(أن لون وجوههم يتغير ويسود حقيقة، ويحتمل أن يكون في العبارة تجوز، وعبر بالسواد عن أن يراد به وجوههم وغالبهم هم وظاهر كآبتهم)، ويقول الفخر الرازي:(مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير 27/ 469) الأقر بأنه سواد مخالف لسائر أنواع السواد، وهو سواد يدل على الجهل بالله والكذب على الله، وأقول إن الجهل ظلمة، والظلمة تتخيل كأنه اسواد، فسواد قلوبهم أوجب سواد وجوههم)، وخامساً: الفعل: وجاء الفعل من مادة:(س و د) بصيغة (الماضي والمضارع) مرتين:ـ فأما الماضي:(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) (آل عمران ـ ١٠٦)، (الفاء) تفريعيّة استئنافيّة، أمّا حرف شرط وتفصيل، (الذين) اسم موصول مبنيّ في محلّ رفع مبتدأ، (اسودّت) فعل ماض ... والتاء للتأنيث، (وجوه) فاعل مرفوع، و(هم) ضمير مضاف إليه .. الخ انظر (الجدول في إعراب القرآن 4/ 269)، والمعنى:(أي يوم تبيض وجوه المؤمنين وتسود وجوه الكافرين)، وفي بياض الوجوه وسوادها قولان: أحدهما:ـ وأخص هنا السواد ـ والسواد كناية عن الغم والحزن، وهذا مجاز مستعمل، من ناله مكروه اسود وجهه وأريد لونه يعني من الحزن والغم، الكافر والظالم إذا ورد القيامة على ما قدم من قبيح عمل وسيئات حزن واغتم، لعلمه بعذاب الله فإذا كان كذلك وسم وجهه بسواد اللون وكمودته واسودت صحيفته وأظلمت، وأحاطت به الظلمة من كل جانب نعوذ بفضل الله وسعة رحمته من الظلمات يوم القيامة، والقول الثاني: بياض الوجوه وسوادها حقيقة تحصل في الوجه، لأن لفظ البياض والسواد حقيقة فيهما، والحكمة في بياض الوجوه وسوادها أن أهل الموقف إذا رأوا بياض وجه المؤمن عرفوا أنه من أهل السعادة وإذا رأوا سواد وجه الكافر عرفوا أنه من أهل الشقاوة، (تفسير الخازن لباب التأويل في معاني التنزيل 1/ 282)، وأما المضارع:(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) (آل عمران ـ ١٠٦)، (تسود) مضارع مرفوع، (وجوه) فاعل مرفوع (انظر الجدول في إعراب القرآن 22/ 270)، ومن الجدير بالذكر ما جاء حول شرح المعني في تفسير (روح البيان 2/ 78) والذين تسود وجوههم يومئذ هم الذين اسودت قلوبهم بالكفر والتفرق والاختلاف من الله وذلك لان الوجوه تحشر بلون القلوب .. ويوم الرين والختم على القلوب وفيه تسوّد الوجوه فلايبقى الا العذاب، فعلى العاقل ان يزيل حجاب الجهل بمعرفة الله تعالى والغفلة واليقظة قبل حصول الرين فانه عند حصوله لا يوجد له العلاج فانه الداء العضال ونعوذ بالله تعالى وكما تتلون الوجوه بنار الجلال كذلك تتلون بنور الجمال... وللحديث بقية.*[email protected]