[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
نحن أَدْمَنَّا الوَجع، وعرفنا الموت معرفة وثيقة فهو يجتاحنا في بعض أقطارنا العربية منذ أكثر من عشر سنوات لم يفارقنا فيها القتل والاقتتال، ولا خفَّت فيها هواجسنا المفزِعة في فضاء صراعات دامية.. واليوم نعيش مع العالم ظروف الجائحة الوبائية الأوسع، "كوفيد - 19= كورونا".. نعيش زمن الرعب والموت في المشافي والشوارع والمواقع، في الأخبار والأحاديث والحوارات، في وسائل التواصل الاجتماعي وفي التصريحات السياسية وصَخَب الفضائيات.. نحن دائما أمام نُذُر الموت/القتل وإرهاب الاقتتال، وبمتناول المستثمرين في الإرهاب والحروب والموت.. نتصاعد أرقاما ضحايا بمئاتِ آلافِ البَشَر من كل الأعمار، وسنة بعد سنة نتآكل ونؤكل ونعتاد الفجيعة.. وإذ تحاصرنا وتعصرنا وتهصرنا الجائحة "كورونا" هذه الأيام بفيروس من نوع "سارس - كوف- 2"، نتذكر أن قنابل نووية استخدمت ضد اليابان في هيروشيما وناجازاكي، وسلاح "الأورانج" استخدم ضد فيتنام وفي كوريا، ورؤوسا نووية استخدمت ضد العراق، وغازات سامة مثل السارين والكلور وأنواع من أسلحة الحرب البيولوجية لم تكن بعيدة عنا واليوم يهاجمنا "سارس - كوف- ٢" الذي هو نوع متطور جدا من السارين، والمصدر في كل هذا أو في معظمه يكاد يكون واحدا.. وفي كل ذلك ولم يفارقنا شبح الموت ولا سؤاله المتصل بالحياة والمتواشج معها.
فيما مضى كان يعاودني سؤال قديم يتصل بالموت.. كان ذاك السؤال يطرق بابي، يعركُني ويربكني ويكاد يهلكني ثم يتركني ولا يقيم.. أمَّا في هذا الزمن العربي الرديء والعالمي الأردأ، وفي كل ما يعيشه الناس في وطني العربي الكبير والعالم الأكبر من ظروف.. في سنوات الكوارث هذه، فإن ذلك السؤال "يهجُمُ، ويُلِحُّ، ويقيم، ويتربع في سويداء القلب ولا يكاد يريم"، ففي كل دقيقة هلع، وفي وقت قتل/موت أو تهديد بموت. ربما كان هذا أكثر من طبيعي في هذا الزمن، زمن المهزلة الإنسانية الموحِلة، زمن الموت بالجملة، والإرهاب بالجملة، والقصف بالجملة، والظلم والاستبداد بالجملة، والتآمر بالجملة، والتبعية للأعداء بالجملة، والفتنة بالمُفَرَّق والجُملَة، والجائحات والكوارث البيولوجية بالجملة أيضا.. ولذا ففي هذا الأوان، يلازم روحي سؤال الموت ويبقى كالغِلِّ في العنق، إذ لا يكاد يغيب حتى يطلَّ.. ويتجلَّى في فضائي تجليه في فضاء الناس من حولي خوفا وبؤسا ويأسا.. ويشكل لنا فضاء مرعبا موحشا متوحشا، يكاد امتداده يكون العمر، ويحيط بالحياة كلها مثلما خُنَّاق يمسك اللهاة، ويحتل كل نواحيها مُلحقا بآفاقها ومعانيها ومغنيها ومبانيها المِحَاق. وحين يُطبِق علينا بأثقاله وأسبابه يحيل النجاة منه إلى نوع من المُحال.
لا أعتقد أن سؤال الموت جديدٌ ولا رَهَقُه خاصٌّ بي، ولا أنه لم يراود سواي ولم يطرق باب أحد غيري.. بل أكاد أقطع بأنه ربما غزا كل نفس في لحظة صحو فائق أو حزن فالق أو يأس ساحق!! إنه السؤال الذي يسكن قلب الحياة، أو هو سؤال الحياة الذي يستبطِنها ويبطِّنها ببيئة الموت أيا كان سبب الموت..
فمن لم يمتْ بالسيف ماتَ بغيره تعدَّدت الأسبابُ والموتُ واحد
على رأي ابن نُباتة السعدي الذي على الأصح أنه قال: "والدَّاءُ واحدُ"..
وذاك السؤال الخاص العام، سؤال الموت، أودُّ أن أصوغه وأُلقيه بالطريقة القاسية المتحدية ذاتها التي يضفيها هو على مَن يجتاحهم ويستبيح حماهم في أي وقت، غير هيّاب ولا آبه بالأحاسيس والمشاعر والعواطف والعلاقات، ولا بالصدمات والارتجاجات التي يُحدثها في كيان البشر، ولا مكترث بالمقامات والقامات والمناصب والمواكب.. فالكل مقموع بمقامعه في زمن آتٍ طال أمده أم يطول.. فكما قال كعبُ بن زهير:
كلُّ ابن أنثى وإن طال البقاءُ به يوما على آلةٍ حَدباءَ مَحمولُ
وهي صياغة تبدأ من النهايات أو من النتائج.. وتقول بلساني ما قد يصح أن يُقال بلسان غيري: "مَن مِنكم أيها الأحياء رأى حيا خالدَ الجسد في تلازم مع خالد الروح إلى الأبد؟! ومن مِن خلق الله يزعم أنه قد يكون ذلك الحيّ الأبيد، أو أنه قادر على أن يخلِّصَ حيًّا من المصير المحتوم، مهما عزَّ عليه ذلك الحيُّ أو سما مقامُه أو قلَّ نظيرُه..؟! ومن ذا الذي لن يزُورَه ذلك الجبَّار في عتمة ليل أو ضحوة نهار، ليختطفه من بين أعزاء عليه، أو ليفجع مجموعة باختطاف عزيز عليها أو عظيم بنظرها وهي له مُحبَّة ومُفتديَة؟! إنه يفعل ومن ثم يترك ضحاياه كتلة من حسرة منقوعة بالعجز والدمع والحزن والألم؟! فمن ذا الذي يدعي أنه قادرٌ على الهَرب من حكم الله.. وكل نفس ذائقة الموت ﴿إِنَّ اللَّـهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴿٣٤﴾ - سورة لُقمان.. فمَن الذي يستطيع أن يأبقَ من الحق المُحيط بالمُلك والخلق؟ ومن ذا الذي يتخلَّص من نافذ أمر الله سبحانه، وهو مُحكَوم بقدرته وقَدَرِه؟! الذي لديه شيءٌ من ذلك الوهم أو من ذلك الإدراك والفهم، أرغب إليه رغبة صادقة أن يعرِّفني على ذاته، وأتطلع بأكثر من اللهفة لأراه وأسمعه يخبرني خبَرَه ويفيدني بخبرته؟!
أقول هذا في زمن الناس هذا، زمن الجائحة والمقاساة في ظروف وجعٍ وهلع، لا لكي أسوِّغ حجم القتل أو الموت والجائحة الكاسحة والوباء المستشري في أرض البشر، ولا لأساهم بسدل ستار على المصائب أو لأجعل حبلها يكرج على الغارب من دون كبح أو اعتراض يهدف إلى الكبح.. وأكرر القول المَكرور "الموت حق".. ولكن.؟! لا أظن أن أحدا من بني البشر يملك وهما أو يحكمه وهمٌ يبلغ به درجة الاعتقاد بأنه يملك حيلة وخبرة وقدرة تنجيه من الموت في هذا المجال أو ذاك، على هذا النحو أو ذاك، في هذا الحال أو ذاك.. ولا أظنُّ أن هناك من يتطلع إلى أن يصبح هو المالك لقدرة تنجيه وذويه وصاحبته التي تؤويه، إذا ما جدَّ الجد وحُمَّ القضاء وأقام الموتُ الحد.. فالموت محيط بالمحيط الذي يشكل البحر واليابسة، ويشمل الأشياء والأحياء، لأنه القانون الأقدم والأرسخ في الكون.. وُجِدَ مذ وجدَت الحياة وهو ينازعها بقوة وقسوة في داخل النفس، ويقيم جدلية معها في السيرورة والصيرورة.. فيبقى وتبقى ويستمر الصراع كأقسى ما تكون الثنائيات في الحياة. وأكرر أنني ذكرت هذا وأذكره لا لأُهون من مُصابِ خلق بخلق ولا من مصابنا بذواتنا من بين كثير من الخلق.. لكن الموت المحتَّم لا ينبغي أن يفرض بالضرورة رعبا محتما مزامنا له يدوِّم في فضاء النفس ويدوم، ولا يستدعي شقاءً وإشقاءً يجعل الناس يكرهون البقاء قيد البلاء والابتلاء ويقبلون على الموت إقبالهم على الحياة، فيموتون قبل الموت في كل وقت.. فحتمية الموت لا تمنع من أن نسعى في مناكبها وإلى الله النُّشور، ولا أن نستمتع بما في الحياة بانتظار يوم الوعد الموعود.. إن من حقنا أن نفعل ذلك على الرغم من أننا في أوضاعنا التي نعيش فيها الرعب موتا، والظلم موتا، والفساد موتا، والخراب موتا، والقتل موتا، والجائحة الرامحة في أرض البشر موتا.. ونعيش معظم ما يتصل بشؤون السياسة وخدعها وحروبها، والكياسة والدعاية والدّعابة بفنونها.. نعيش نوعا من تآمر وقصور وعجز ويأسٍ ونحن على ضفاف الموت.. حيث لا يرفع المعتدون والمفلسون روحيا وأخلاقيا السيف عن رقابنا، ولا يكف الأشرار عن اضطهادنا وإرهابنا وابتزازنا وزجِّنا في الأزمات والضائقات المعيشية والاقتصادية، ويلاحقوننا بالمهلِكات من الأسلحة النووية والبيولوجية والتقليدية وغيرها وغيرها.. من ضفاف الولادة إلى ضفاف المَمات..!! إنه على الرغم من ذلك الابتلاء لا بُدَّ لنا من أن نعيش الحياة كفاحا ضد الظلم والعقم والبؤس واليأس والموت.. وأن نعمل بأمر الله الذي خلَقنا وحَكَم علينا بالموت في نهاية حياة تقصُر أو تَطول.. حيث قال سبحانه: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّـهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّـهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴿٧٧﴾ - سورة القصص.
إننا في الخلفية القَدَرية الخَفية نعيش تحت وطأة كابوس المَوت بالتسليم والتوكل، ونعرف أن ذلك هو المُقَدَّر قادم، وأن الموت يدق بخطواته الدربَ وراءنا في كل دقيقة من دقائق العمر، صامتا، صارما، مصمِّما، لائذا أو متلاوذا.. وأنه يسخر من حذَرنا واحتياطاتنا ونزَقنا ونزواتنا وجشعنا وغطرستنا وبطولاتنا، ومن احتجاجاتنا عليه أيضا.. ويبرز لنا بين لحظة ولحظة وحدَثٍ وحدث، ليذكرنا بنفسه ويعظنا بنا، وليروِّعنا بأداة خفية من أدواته أو بأيدينا حيث نكون الغاية والوسيلة.. ويبقى هو في الهدوء والسيرورة "موتا يلازم الحياة".
لا بدَّ من أن هناك حكمةٌ في ذلك، ربما ليظل لنا في العيش أمل ولا نكف في الحياة عن العمل، ولكي نتمرّد فنشعر بالزهو والخيلاء، ونرفرف في القفَص، ويساورنا شغف بوجود يتطلع إلى الخلود، وتداخلنا عنجهية تفوق كل ما في الجهل والجاهلية من عنتريات تريد أن تقيِّد الحياة بقيد أوابدٍ فائق القدرة والتحديد والتجديد، قيدٍ لم يفترعه امرؤ القيس بن حجر ولا سواه ممن ساروا على خطاه.. فننسى مرارة العيش، ويغيب عنا وقع خطا تدق الدرب وراءنا، ويغيب عنَّا عبثُ الوجودٍ بنا، وعبثٌ يشملنا في الوجود ويحيلنا إلى عدم.. فتتَّوقدُ في نفوسنا شعلةُ الشوق والتوق، والتمرّد، والتسلُّط، والتجبُّر، والتَّكَبُّر، والتسلي، والتلهي.. و.. و.. فلا نرى روحا في أغلال جسد، ولا نارا تسري في العروق مع الدم وتتحول في آناء من الوقت إلى زخَّات من البَرَد، ولا كائنا يجسِّد حضورُه وبناؤه العُضوي تخلُّق المَوت من الحياة وتخلُّق الحياة من الموت.. كما يتخلَّق في روح ذاك الكائن العجيب "الإنسان": اليأس من الأمل والأمل من اليأس. فسبحان الذي يُخرج الحيَّ من الميِّت ويخرج المَيِّتَ من الحيّ، ويكتب المقادير ويبرمُها، الله الذي خلَقنا، وجعل موتا وحياة، وتطلُّعا وتوقا، وذكرة وسلوة، وغفوة وصحوة، لكي نتجرع الكأس حتى الثمالة مع ما فيها من علقم الوجْد وألَم الفَقْد وضحالة العيش، وظلم الظُّلَّام، ونفاق الأنام، وفتون المفتونين، وفنون الجنون والمجانين.. ونتذوَّق بعض ما في تلك الكأس أيضا من مذاق حلاوة التجدّد، وفرح اللقاء على الحب، والنشوة باحتمال البؤس وتجاوز اليأس، وبانتصار الحياة على الموت ببقاء يتولَّد ويتجدد، يحققه الإيمان والأمل والعمل والحُب والإبداع في فضاء بديعِ السماوات والأرض.
جميلة هي الحياة، وجميل بقاؤنا المتجدد في انتصار لها على الموت. فلماذا يفرُض علينا بعضُ خلق الله ما لم يفرضه علينا الله من إرهاب وعذاب وقتل وسفك دماء وموت قبل الموت، وفجيعة في كل خطوة نخطوها في الحياة ونحو الموت؟!.. ولم التسلط والتطاول على حق الإنسان في أن يحيا الأيام التي كتبها الله له، بحرية وكرامة وأمنٍ من جوع وخوف؟!
إننا إذا ما أخذتنا العزة بالنفس وزينت لنا تلك الأمارة بالسوء أن نستطلع أمر الحياة في حال غياب مطلق للموت.. فما الذي نتصوره من بعد لأوضاع الحياة وللكائنات فيها، وللإنسان من بين تلك الكائنات على الخصوص؟! تخيلوا انتشار الأحياء في الأرض منذ بداية الخلق حتى يوم القيامة، وانتفاء الموت فلا موت.. تصوروا ما سيولده ذلك ويتركه من معطيات لدى الأحياء وفي الحياة؟! تصوروا خَلقا لا يتخطَّفهم الوقت، ولا يردعهم موت، ولا يخافون من بعث ونشور ولا من من حساب وعذاب من بعد موت يجيء بذلك أو يستدعيه.. تصوروا خَلقا لا يحكمهم قانون أو حساب أو توعّد بعذاب بعد النشور من القبور.. وارسموا في ظل ذلك صورة للحياة والأحياء، ولأنواع السلوك والتعامل وأساليب الأداء، ولفتك الناس بالناس.. وتصوروا في ضوء ذلك كله حكمة القدرة الإلهية التي أوجدت الموت وأسراره، وأوجدت بعثا ونشورا وحسابا للمرء من بعد موت على ما قدم وأخّر..؟!
إننا في حوض واحد محكومون بشرط بشري وبمصير بشري يحققان عدلا في نهاية شوط هذه الدنيا، قد لا يتحقق فيها أبدا، ويحققان مساواة بين الناس أمام الموت قد لا تكون ممكنة في الحياة أبدا؟!
إن في سجال الموت والحياة حكمة، وفي وجود الموت وفعله أيضا حكمة لقادر يدبر أمر الموت والحياة والأحياء والأشياء والأفلاك في الكون.. فـ:﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿١﴾ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴿٢﴾ - سورة الملك.
رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطلا سُبحانَك.