مُساعد المُدَّعي العام/ ناصر بن عبدالله الرياميمعلومٌ بأن الإخلال بواجبات الوظيفة العامة يُعدُّ فعلًا من الأفعال التي قد يؤاخذ عليه الموظف بمقتضى قانون الخدمة المدنية، وأن المساءلة الإدارية وتوقيع الجزاءات، تكون من اختصاص المجلس المركزي للمساءلة، أو مجلس المساءلة الإدارية بالوحدة التي وقعت فيها المخالفة.ما قد يكون غير معلوم لبعض العامة، في هذا الصّدد ويسعى الادعاء العام إلى إيصاله لجمهوره الكريم، يتمثل في التالي:هل من الجائز قانونًا إخضاع الموظف الذي ثبت إخلاله بواجبات وظيفته، للمساءلة الجزائية، بدلًا من المساءلة الإدارية أو فضلاً عنها؟للإجابة على هذا التساؤل، سنضع تاليًا واقعة افتراضية، صدرت من موظف؛ فنبين، على ضوئها، كيف من الجائز قانونًا إخراج الموظف من فلك المساءلة الإدارية، وإخضاعه للمساءلة الجزائية.أولًا ـ من حيث الوقائع:سنفترض بأن الواقعة تتمثل في التالي بيانه:1 ـ موظفٌ دائم التأخر عن الحضور إلى العمل، دونما مسوّغ، وفي بعض الأحيان يصل تأخره إلى التاسعة صباحًا؛ ولا يأتي إلى الدوام مطلقًا، في الأيام التي يعلم أن مدير الادارة مرتبطٌ بعملٍ خارجي.2 ـ بلغ به الاستهتار درجة متابعته للأغاني والمباريات عبر جهازه المحمول، وهو الأمر الذي يضر بمصالح الدولة، من دونِ شك، بسبب ترك العمل جانبًا، أو انجازه بشكل غير صحيح فيضطر المدير إلى إعادة العمل إليه لإنجازه من جديد الأمر الذي يسهم في تأخير مصالح المراجعين.3 ـ كثيرًا مايترك العمل ويجلس في سيارته بحجة التدخين؛ وعندما يأتي مراجع للسؤال عن معاملة محددة، تكون الإجابة الحاضرة عنده بأنها لم تردنا بعد.4 ـ في بعض الأحيان، ينام في العمل؛ وما أن يصحو حتى يبحث عمّا يلهو به، إلى أن ينتهي وقت العمل ويخرج.5 ـ وفوق كل هذا، فإنه دائبٌ على قَبول الهدايا من المراجعين، رغم التأكيد عليه، بألا يقبل منهم شيئًا دونما عرض الأمر على مديره.6 ـ محاولات النُّصح والإرشاد، من طرف مديره المباشر، باءَت بفشلٍ ذريع؛ وهو الأمر الذي اضطرّ المدير إلى رفع أمر مساءلته إلى جهة الإدارة.ثانياً ـ من حيث القانون:7 ـ جرَّم المشرع الجزائي، في المادة (199)، فعل إخلال الموظف العام "قصدًا" بواجبات وظيفته، متى ما سبَّب هذا الاخلال المقصود اضرارًا بمصالح الدولة.8 ـ كما نظم المشرع، في قانون الخدمة المدنية، جُملةً من الواجبات المفروضة على الموظف، وكذا الأعمال المحظورة عليه؛ فأورد في المادة (103)، ما مُؤدّاه بأن الوظيفة العامة تكليف على القائمين عليها؛ وأن هدفها الأساس هو خدمة المواطنين، تحقيقًا للمصلحة العامة.وأورد في هذه المادة مجموعةً من الواجبات، من ضمنِها: أن يؤدي العمل بدقةٍ وأمانة، وأن يحافظ على كرامةِ الوظيفة، وأن يسلك في تصرفاته المسلك اللائق بها؛ وأن يحترم مواعيد العمل، وأن يخصّص وقت العمل لأداءِ واجباته الوظيفية.9 ـ كما أورد المشرع، في القانون ذاته، مجموعةً من المحظورات في المادة (104)، من ضمنها: إفشاء الأمور التي يطلع عليها بحكم وظيفته؛ الإهمال أو التقصير الذي يترتب عليهما ضياع حق من الحقوق المالية للدولة؛ واستغلال الوظيفة لتحقيقِ أغراضٍ شخصيةٍ، وكذا "قَبول هديةً، أو مُكافأةً أو عمولةً، من أيّ نوعٍ، ..." .. وغيرها الكثير من المحظورات.ثالثاً ـ من حيث التطبيق:10 ـ هذا، وبإنزال الحكم الذي أورده المشرع في المادة (199) من قانون الجزاء، على الواقعة الافتراضية، نجد بأن التصرفات السّلبية التي أتاها الموظف تُشكّل مُخالفة صريحة للقاعدة القانونية المذكورة، إذ أن الركن المادي للجريمة مُتحقِّق، والمتمثل في إتيان الموظف أفعال الإخلال بواجبات الوظيفة التي نظمها المشرع في المادتين (103، 104) من قانون الخدمة المدنية، كما أن التقرير المرفوع من الرئيس المباشر، قد يشير إلى أن تلك السُّلوكيات لم يقع فيها الموظف خطأً؛ وإنما بأفعالٍ مُتعمَّدة، لاتتّفق البتَّة وما تفرضه الوظيفةِ العامة من دقةٍ وأمانةٍ، بل، ومن تعفُّفٍ واستقامة، مُؤكدًا الرئيس أن الموظف المخالف، دائبٌ على هذه التصرفات غير اللائقة، على الرغم من تنبيهه لغير مرة.11 ـ وبالنظر إلى أن الفعل المجرَّم بمقتضى المادة (199) من قانون جزاء، يعّد من جرائم العمد، فإن الركن المعنوي، والحال كذلك، يتمثل في القصد الجنائي العام، المتمثل في (العلم والإرادة)، أيّ أن يكون الموظف عالمًا بما يفعل، وأن الفعل يُعد فعلًا مُجرّمًا، وأن تكون إرادته حُرةً غيرِ معيبة، ولم يشترط المشرع لقيام الجريمة قصدًا جنائيًا خاصًا، الى جانب القصد العام، وهو الأمر الذي يدفعنا ـ حتى هذه النقطة ـ الى القول بتحقق الجرم.12 ـ ومع ذلك، فبالنظر إلى أن الواقعة تشكل، في المقام الأول، مخالفة إدارية، وأن المشرع أورد لها في قانون الخدمة المدنية، عقوبات إدارية محددة في المادة (116) من القانون، تبدأ بالإنذار، فالخصم من الراتب؛ تدرجًا إلى الحرمان من العلاوة الدورية، ثم خفض الراتب؛ مرورًا بعقوبات إدارية أخرى، وصولًا إلى الفصل من الخدمة؛ فإن إخراج الواقعة، والحال كذلك، من فلك قانون الخدمة المدنية، وإخضاعها للمُلاحقة الجزائية، وفق مُقتضيات قانون الجزاء، بعقوباتِه المغلَّظة، التي تصل إلى السَّجن لمدة ثلاث سنوات، يتطلب ليس فقط تأكيد حدوث فعل الإخلال بواجبات الوظيفة، وإنما تأكيد صدور الفعل من الموظف بشكلٍ متعمد، وليس بالخطأ، وأن ذلك الإخلال سبب أضرارًا بمصالح الدولة.13 ـ ويقع على كاهل الادِّعاء العام عبء اثبات هذا الضرر، بتحديدٍ قطعيٍّ جازم، ولايجزيه القول أن ثبوت التقصير أو الإخلال، يؤدي بحكمِ لزومِ العقل و المنطق إلى تحقق الضرر.14 ـ ومن تطبيقات الضرر الذي ينبغي على الادّعاء العام إثبات حدوثه، الإهمال مثلًا في متابعة تنفيذ حكم قضائيّ، أدى إلى سقوطه بالتقادم أو عدم استيفاء غرامة الحق العام، وسمح للمحكوم عليه السَّفر، ممَّا فوَّت على الخزينة العامة موردًا ماليًا. فإذا حدثت مثل هذه النتيجة، وغيرها الكثير، جراء التصرفات التي بدرت من الموظف، في الواقعةِ الافتراضية الماثلة، نقول عندئذٍ أن فعل الموظف تجاوز فلك قانون الخدمة المدنية، ودخل في فلك قانون الجزاء، ويمكن بذلك ملاحقته جزائيًا، وإن كان قد أخضع فعلاً للمُلاحقة الإدارية.رابعاً ـ من حيث الرأي:15 ـ يمكن القول أن المخالفات الواردة في الواقعة الافتراضية الماثلة، على فرض ثبوتها، وتحقق أركانها، فهي ترشِّح لقيام الجُنحة المجرّمة بمقتضى المادة (199) من قانون الجزاء، ومع ذلك فالأمر يعوزه تحقيق دقيق، ومُحايد للوقوف ـ على وجه القطع واليقين ـ على تحقق القصد من ناحية؛ وتحقق الضرر بمصالح الدولة، من ناحيةٍ أخرى.16 ـ القول بأن الواقعة تُرشِّح لقيام جنحة الإخلال "المقصود" بواجبات الوظيفة، فهي تضحى من اختصاص الادّعاء العام؛ الذي سيعمل على تقييم التحقيقات الإدارية التي أجرتها جهة الإدارة، ويبني عليها تحقيقاته، قبل أن يتخذ ما يراه مُتفقًا والمصلحة العامة، من حيث الإحالة إلى المحكمة المختصة أو التقرير بحفظ التحقيقات، وفق المرتكزات القانونية التي حدَّدها المشرع في قانون الإجراءات الجزائية.