يعلم المتخصصون في اللغة العربية و دارسوها بل و معظم قارئي هذا المقال أن الجمع المؤنث السالم ينصب بالكسرة النائبة عن الفتحة. و لكن هذه الحقيقة تنطوي على سؤالين تبادرا إلى ذهن الكثيرين, و في كثير من الأحيان طرحا. و لكن في كثير من الأحيان لم يجد السائل إجابة مقنعة, هذا إن لم يقم المسئول باستنكار السؤال لعدم توفر الإجابة أو ظنا منه بأن جميع الحقائق المتعلقة باللغة و الدين غير قابلة للتساؤل و النقاش, أو لأن اللغة "سماعية" كما يقال تواترا, بمعنى أنها ليست بحاجة الى تعليل أو تبرير. في ما يلي سوف نطرح هذين السؤالين و نحاول تقديم إجابة ترقى إلى مستوى الذائقة اللغوية لأمة الخليل بن أحمد الفراهيدي, راجين الحصول على أجر الاجتهاد على الأقل.تنبيه: سوف تكون المقارنة في ما سيأتي بين الأسماء المفردة (مذكرها و مؤنثها) و الأسماء غير المفردة (مثناها و جمعها, مذكرها و مؤنثها). أيضا سوف يتعلق النقاش بالجمع السالم, لا بجمع التكسير,والذي يصرف كالأسماء المفردة لعلة سوف نتطرق لها. أيضا سوف نكتب نطق الكلمات العربية برموز جمعية الصوتيات الدولية لكي يكون النطق واضحا من حيث الحركات (الضمة u و الفتحة a و الكسرة i ) و حروف العلة (الواو uu و هو ما يعتبر ضمة طويلة, و الألف aa و هو ما يعتبر فتحة طويلة, و الياء ii و هي ما يعتبر كسرة طويلة) و تمييز الواو كحرف علة عن الواو الساكنة و الألف كحرف علة عن الهمزة (و رمزها هو ما يشبه علامة الاستفهام) و الياء كحرف علة عن الياء الساكنة. أيضا نحن نتفق مع معظم الأبحاث ذات الصلة في النظرية اللغوية الحديثة في أن عامل العدد (من حيث الإفراد أو التثنية أو الجمع) غير موجود في المفرد, و أن عامل التذكير و التأنيث غير موجود في المذكر, و أن عامل الفاعل ( من حيث كونه متحدثا أو مخاطبا أو غائبا) غير موجود في الغائب.السؤال الأول هو لماذا يعامل الجمع المؤنث السالم، دونا عن جميع الأسماء غير المفردة الأخرى (الأسماء المثناة و جمع المذكر السالم)، معاملة الأسماء المفردة في ما يتعلق بالصيغ الصرفية. فنراه يرفع بالضمة و ينصب و يجر بالكسرة، كما يوضح الجدول رقم 1.الإجابة على هذا السؤال تكمن في حقيقة أنه و بخلاف الأسماء المثناة و جمع المذكر السالم فإن عامل الصيغة الصرفية (علامات الرفع و النصب و الجر) في الجمع المؤنث السالم لا يقترن بعامل العدد (علامة الجمع و هي ألف العلة)، حيث ان عامل التأنيث (و هي التاء) يفصل بين عاملي الصيغة الصرفية و العدد، كما يوضح الجدول رقم 2.و لذلك فإن علامات الرفع و النصب و الجر للجمع المؤنث السالم هي علامات الأسماء المفردة, حيث إن الأسماء المفردة لا تحتوي على عامل للعدد كما افترضنا سابقا. و يدعم هذا الطرح حقيقة أن الأسماء التي تجمع جمع تكسير تكون لها نفس علامات رفع و نصب و جر الأسماء المفردة، كما يوضح الجدول رقم 3، و ذلك لأن عامل العدد في هذه الأسماء لا يكون في آخرها بل يكون في وسطها، سواء كانت مذكرة أو مؤنثة، أي أنه بعيد عن عامل الصيغة الصرفية و الذي يكون في آخر الكلمة.و هذه الإجابة (من حيث أن الجمع المؤنث السالم يصرف كالأسماء المفردة) يقودنا بدوره إلى السؤال الثاني و الأهم و هو لماذا ينصب الجمع المؤنث السالم بالكسرة لا بالفتحة كالأسماء المفردة؟ و يمكن طرح هذا السؤال بصورة أعم و أشمل، و هي لماذا ينصب الجمع المؤنث السالم بما يجر به؟ الإجابة على هذا السؤال تكمن في حقيقة أن الاسم المجموع جمعا مؤنثا سالما ليس الوحيد الذي ينصب بما يجر به، فجميع الأسماء غير المفردة في اللغة العربية الفصحى تنصب بما تجر به، كما يبين ذلك الجدول رقم 4.و بتعبير آخر فإن جميع الأسماء غير المفردة ليس لها علامات نصب و لذلك فانها "تستعير" علامات جرها لتكون علامات نصب لها. و بذلك فإن علامة النصب الوحيدة في اللغة العربية هي الفتحة، التي تعمل في الأسماء المفردة و جمع التكسير. و هذا يجعل الياء و النون، و هي ما يعرف حاليا بعلامة نصب الاسم المثنى و جمع المذكر السالم, علامة نائبة لا أصيلة.الإجابة الأخرى التي يمكن أن تتبادر للذهن لهذا السؤال هي عكس ما قلنا, أي أن علامات الصرف الموضحة بالخط العريض (boldfaced) في الجدول رقم 4 هي علامات نصب لا علامات جر في اللغة العربية و أن الأسماء غير المفردة "تستعيرها" لتكون علامات جر لها. و لكن هذه الإجابة البديلة غير صحيحة لسببين. الأول هو أن الجمع المؤنث السالم ينصب بالكسرة لا بالفتحة، و لو كانت الإجابة البديلة صحيحة لنصب الجمع المؤنث السالم (و الذي لا يتصل عامل عدده بعامل صيغته الصرفية) بالفتحة لأنه يشبه الأسماء المفردة (و التي لا تحتوي على عامل للعدد)، و لكننا نجد العكس.و السبب اللآخر هو أن ما شاهدناه إلى الآن في أسماء اللغة العربية موجود إلى حد كبير في أفعالها. الجدول رقم 5 يستعرض الصيغ الأربعة عشر للفعل في اللغة العربية (إثنتان للمتحدث و ستة للمخاطب و ستة للغائب). سوف يكون النقاش في هذا المقال عاما و سوف يتجاهل أربع صيغ، و هي الموجودة في رقم 2 و رقم 4 و رقم 8 و رقم 14 و ذلك لأن ما سنقوله عن الصيغ العشر الأخرى لا ينطبق عليها مباشرة. و لن يقدم هذا المقال شرحا لحقيقة اختلاف هذه الصيغ الأربع عن النمط العام للصيغ الأخرى. و لكن هذا الشرح متوفر في المقالة الأطول حول هذا الموضوع و التي سوف تنشر في القريب العاجل في إحدى المجلات الأدبية المتخصصة. لم نقدم هذا الشرح هنا لأنه طويل و معقد و يستند الى الكثير من الفرضيات و القواعد الصرفية. هذا و سوف ينحصر النقاش على الفعل الصحيح السالم، و الذي جذره في هذه الحالة "درس" (darasa).ترفع الأفعال في اللغة العربية بالضمة إذا كانت مفردة و بالنون إذا كانت غير مفردة (أي مثناة و مجموعة). و تنصب بالفتحة إذا كانت مفردة و إذا كانت غير مفردة فلا علامة نصب لها. القول المتواتر بأن علامة نصبها في هذه الحالة هو حذف النون ليس دقيقا لأنها في حالة النصب لم تكن لديها أبدا نون. يبين الجدول أن علامة النصب في هذه الحالة هي (Ø)، و هذه العلامة تشير الى انعدام العلامة الصرفية, أو انعدام الحركة (أو السكون) و هو يوجد إذا اختفت الحركات (الضمة و الفتحة و الكسرة). هذا الرمز يستخدم في الرياضيات للإشارة ل "المجموعة الخالية"، أي انعدام المحتوى. و هذا بالضبط ما نلاحظه في الأفعال المجزومة، و التي تجزم بالسكون (Ø) أو انعدام الحركة أو العلامة الصرفية إذا كانت مفردة, و كذلك بانعدام العلامة الصرفية (Ø) إذا كانت غير مفردة. القول المتواتر بأنها تجزم بحذف النون ليس دقيقا لأنها لم تحتو على النون في حالة الجزم بل في حالة الرفع فقط.على أي حال فان ما أردنا قوله هنا هو أن علامة جزم الأفعال المفردة و غير المفردة في اللغة العربية هي بالضبط علامة نصب الأفعال غير المفردة. و هذا يعني أن الأفعال غير المفردة ليست لها علامات نصب أصيلة و لهذا فإنها "تستعير" علامات جزمها لهذا الغرض. و هذا يشبه ما قلناه سابقا بأن الأسماء غير المفردة ليست لها علامات نصب أصيلة و هو السبب في أنها "تستعير" علامات جرها لهذا الغرض.بعد معرفة السبب في أن الجمع المؤنث السالم ينصب بالكسرة يبقى السؤال لماذا ليس للأسماء غير المفردة في اللغة العربية علامات نصب خاصة بها. نبحث هذا السؤال في مناسبة أخرى.المراجع :Al-Balushi, Rashid. 2013. Verbal and Nominal Case Suffixes in Standard Arabic: A Unified Account. Brill’s Annual of Afroasiatic Languages and Linguistics, 5(1):35-82.Bejar, Susana. 1998. Markedness and Morphosyntactic Representation: A Study of Verbal Inflection in the Imperfective Conjugation of Standard Arabic. M.A. Thesis, University of Toronto. د. راشد بن علي البلوشي أستاذ اللغويات المساعد بجامعة السلطان قابوس