د.خلفان بن محمد المبسلي:إنّ النفوس حين تأتلف تلتقي بعد فراق طال أو قصر. ولقاء النفوس المؤتلفة يعود بعجلة التاريخ إلى زمن مثالي أشبه ما يكون بدفء الشتاء ونسيم الصيف، حيث تتفتق الأزهار فتبعث الأمل بعد اليأس، وتجدّد المحبّة بعد غياب فرضته الظروف بعد أن كان الحضور شبه يومي. ما أجمل حياة الصبا! وليت الشباب يعود فأخبره بما فعل المشيب!.ما أجمل لقاء أصدقاء تجمعهم ذكريات الدراسة وحنين فضاءات سبق أن أكلوا فيها وشربوا قبل أن تقذفهم بعيداً ضرورة الوظيفة ومقتضيات الخدمة الوطنيّة، لما يقارب ثلاثة عقود من الزمان تغيرت خلالها الملامح من نضارة الشباب إلى تجاعيد الشيب.منذ الإعلان عن لقاء وشيك بين أصدقاء الطفولة بفضل وسائل التواصل الاجتماعيّ، تساءلت مرات عما عسى أن يصدمني من تغييرات. هل لا زالت فكاهة قلوبهم بين ثنايا اللسان حاضرة وبطلاقة كما عهدناها؟ ما التغييرات التي ستبين على محياهم؟ هل سأتعرف عليهم بسهولة في أثناء اللقاء أم سيصعب معرفتهم ..؟ يا لها من أفكار تراودني قبيل موعد اللقاء الذي هل سأبدو فيه غريبا ولن يتمكن أصحابي من التعرف علي بسهولة فثلاثون عاما كفيلة أن تصنع علامات تعجب وان تمحو من الذاكرة ملامح وصورا وأصواتا وأشخاصاً كانوا على قلب رجل واحد يأكلون في موعد واحد وينامون ويصحون ويصلون في وقت واحد بل وخط سيرهم الى الدراسة بنفس المسلك والمسار وكما أن أفكارهم كانت متقاربة إلا أن الزمن يصنع المعجزات فالنسيان يراود الانسان في أقصر الأوقات فما بالكم بثلاثة عقود من الزمن من عهد الفتوة الى عهد الكهولة والأحفاد ..!.في إحدى مزارع ولاية السيب كان اللقاء، لقاء ترقبه الجميع وصلت في تمام الخامسة مساء ووجدت عدداً من الحضور بدأ في التوافد الى الموقع المتفق عليه، منهم من جاء من ولايات بعيدة أكثر من مائتي كيلو متر يحمل أشواقاً دفينة، يسترجع الماضي بلهفة وشوق، يحضر في طريقه عمق العلاقات المتأصلة في ماضينا إبان مرحلة الفتوة.بدأ الحضور يتوافد أشاهده من خلال مجموعة افتراضية (واتسب) وبدأ تناقل الصور فكانت بملامح مغايرة تماماً كما تصورت، في الوهلة الأولى بدأت عيناي تشخصان الحضور غير المألوف بيد أن منهم غاب عن ذاكرتي تماماً إلا أنني استرجعت ذكريات جميلة كانت تساعدني على معرفة الأشخاص الحاضرين بقلبي لإبان الفتوة والحاضرين في تلك اللحظات أمام عيناي إلا أنني كنت استرجع الماضي وأركز في الحاضر فكانت المواقف السابقة التي استحضرناها أثناء اللقاء تثير ذاكرتي فتستجيب لتجميع ملامح الزملاء آنذاك لأتعرف عليهم بكل سهولة فذاك سعيد عرفته من ملامحه مباشرة رغم أن الدهر أكل منه وشرب وذلك أحمد والآخر يحيي وصالح وياسر .. وغيرها من الأسماء التي حضرت مباشرة مع العودة لذكريات الماضي التي أضحكتنا وأبكت مشاعرنا في آن. وقد قيل في ذلك قديماً بأن نعمة الشيخوخة هي الضحك من الأخطاء التي ارتكبت في الماضي، هنا نريد القول بأننا حينما نتذكر جزءاً من أخطائنا التي ارتكبناها إبّان فترة الدراسة نعتقد بأننا غير مسؤولين عن تلك الأخطاء وانها جاءت غير مقصودة وتلقائية عابرة بشقاوة مما تركت مجالاً وأثراً في نفوسنا أن نتعرف على بعضنا دون أية ضبابيات.إن المؤلم حقاً في هذا اللقاء الأخوي حينما نسأل عن محمود وهلال وخلف ويحيى .. وغيرهم مما لا أتذكر أسماءهم قيل لي بأنهم انتقلوا إلى جوار ربهم منذ فترة من الزمن فقد أصابنا عليهم حزن بقي في قلوبنا إلا أن حرارة اللقاء دعتنا نتجاوز الاحزان راضين ومستسلمين لقضاء الله وقدره، كما أن تجاذب الحديث الطريف فيما بيننا كانت كفيلة أن تعود بنا الى عقود خلت.إنّه لقاء الأحباء ووصلهم بعد فراق طويل. بعد لوعة البكاء على الأطلال لظعن الأهل، ها هي الأطلال تُشيَّد قصوراً تتدفّق فيها أمواج الحياة، تغرّد فيها عصافير الأمل فتطرد غربان اليأس والشؤم. لقاء واحة العلقين بالسيب عوّض فراق الشباب بوصل الكهول. بعد الغيث يبقى الندى، وتمرّ الأيام فتبقى الآثار مرسومة على جبين الدهر.*[email protected]