محمود عدلي الشريف*
توقف بنا الحديث في المقال السابق ـ قرائي الكرام ـ عند أقوال العلماء واختلافهم حول أصل الألوان، فمنهم من قال أصلها الأبيض، ومنهم من قال أصلها من الأبيض والأسود، وإليكم التتمة، نسأل الله تعالى أن يديم علينا وعليكم تمام النعمة، ومن الذين قالوا بأن أصل الألوان من السواد والبياض، الجاحظ في كتابه:(الحيوان ـ باب أصل الألوان 5/ 30):(وقد جعل بعض من يقول بالأجسام هذا المذهب دليلا على أن الألوان كلّها إنما هي من السواد والبياض)، وإنما تختلفان على قدر المزاج، وزعموا أن اللون في الحقيقة إنما هو البياض والسواد، وحكموا في المقالة الأولى بالقوة للسواد على البياض، إذ كانت الألوان كلها كلما اشتدت قربت من السواد، وبعدت من البياض، فلا تزال كذلك إلى أن تصير سواداً، وقد ذكرنا قبل هذا قول من جعل الضياء والبياض جنسين مختلفين، وزعم أن كلّ ضياء بياض وليس كلّ بياض ضياء، ثالثاً: من قال أن أصل الألوان ثلاثة (الأحمر والأزرق والأصفر)، وجاء ذلك في موجز دائرة المعارف الإسلامية (28/ 8854) بترقيم الشاملة: (والأبيض لا يُعدُّ لوناً، شأنه في ذلك شأن الأسود، ففي عالم الفيزياء نجد أن الجسم الأبيض يوزع كل الإشعاعات المرئية الساقطة عليه بالتساوي ، وكذلك الجسم الأسود يمتص كل الإشعاعات امتصاصاً تاماً ولايعكس منها أي شعاع، فالألوان غير اللونية هي على درجة الصفر من التشبع، والألوان المكملة هي تلك الألوان التي تجعل من بعضها البعض ألواناً محايدة، وإذا مزجت أنتجت لوناً أبيض:(النيلي/ الأصفر، الأزرق/ البرتقالي، البنفسجي/ الأخضرـ الأصفر، الأحمر/ الأزرق ـ الأخضر، وأخيراً فإن ألوان الطيف السبعة منها ثلاثة فقط: الأزرق، الأصفر، الأحمر هي الأساسية، إذ تخرج منها باقي الألوان)، وابحث في (أرشيف منتدى الفصيح ـ 1 بترقيم الشاملة آلياً) تحت عنوان:(علاقة البصيرة بالنور والبصر بالضوء) ما نصه:(تعتبر الألوان الأساسية هي الأصل في جميع الألوان ووجودها: والألوان الأساسية لا يمكن استنباطها من ألوان أخرى، ولكن يشتق منها باقي الألوان، والألوان الأساسية هي عبارة عن ثلاثة ألوان هم:(الأحمر، الأزرق، الأصفر)، حيث يتم مزج تلك الألوان للحصول على الألوان الأخرى والتي تسمي الألوان الفرعية أو الثانوية، فالأشعة والإشعاعات تلوّن الفضاء والوجود والكائنات والجماد بألوانٍ يحددها نظام حركة الذبذبة الفائق الدقة! لكن قلّما راقبها الإنسان العادي أو تقصى ماهيتها ودقتها في سبيل المقارنة والربط، حتى من الناحية المادية! فكم من شخصٍ عاش طوال سنين تحت الشمس ولم يتساءل لمرّة واحدة، لماذا إشعاعات الشمس تبدو صفراء في النهار فيما ترتدي وشاحاً أحمر عند المغيب؟ وكم من شخص تأمل في زرقة السماء من دون أن يتساءل لماذا السماء زرقاء؟ علماً أن الجواب يكمن في هذه التساؤلات، كونها تتطرّق إلى ثلاثية الألوان الأساسية: أحمر، أصفر وأزرق! فالألوان الأساسية ثلاثة ألوان رئيسية: الأحمر، الأصفر، الأزرق ونستطيع الاستنتاج أن الألوان الرئيسية هذه تعتبر (الأصفى) عادة، ولو أن هناك اختلافاً بينهم، وعند خلط هذه الألوان الأساسية مع بعضها في كميات مختلفة .. تحصل على بقية الألوان ..، وثالثاً: من قال أن أصل الألوان أربعة:(أبيض وأسود وأحمر وأخضر): يقول عبدالقادر العاني في كتابه:(بيان المعاني 3/ 533) في تفسير قوله تعالى: زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ):(أخضر وأسود وأزرق وأبيض وأحمر وأصفر) وما بين ذلك من الألوان، لأنك إذا مزجت بعضها ببعض يظهر منها ألوان أُخر، لأن أصل الألوان أربعة:(أبيض وأسود وأحمر وأخضر)، فإذا مزجت الأبيض مع الأحمر صار أخضراً وهكذا، وأنه بعد تلك الألوان البهية المختلف أزهارها (فَتَراهُ مُصْفَرًّا) إذ تحيل لونه الكواكب والأرياح بما يضع الله فيها من التأثير وهو الملك القدير الذي أنبته من لا شئ، ومن الواضح أن هذا الإحتلاف ناتج عن وجهة نظر كل فريق، لآن كل منهم يرى أن الألوان من زاويته هو، وما ذلك إلا لفهم كل فريق لماهية اللون، وحتى نقف على حقيقة رأي كل فريق، ينبغي أن ندخل في ماهية اللون، وإذاما تعرضنا لماهية اللون، كان لزاماً علينا أن نطرق أبواب علماء اللغة حتى يوضحوا لنا هذا الإشكال، وإليكم ـ قرائي الكرام ـ تعاريف أهل اللغة للون: يقول صاحب (مختار الصحاح، ص: 287): اللَّوْنُ: هَيْئَةٌ كَالسَّوَادِ وَالْحُمْرَةِ، وَفُلَانٌ (مُتَلَوِّنٌ) أَيْ لَايَثْبُتُ عَلَى خُلُقٍ وَاحِدٍ)، ويقول ابن منظور في (لسان العرب 13/ 393): ولَوْنُ كلِّ شَيْءٍ: مَا فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، قَالَ الأَخفش: هُوَ جَمَاعَةٌ وَاحِدَتُهَا لِينَة، وَلَكِنْ لَمَّا انْكَسَرَ مَا قَبْلَهَا انْقَلَبَتِ الْوَاوُ يَاءً، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:(مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ)، وقَالَ الْفَرَّاءُ: كُلُّ شَيْءٍ مِنَ النَّخْلِ سِوَى الْعَجْوَةِ فَهُوَ مِنَ الليِّنِ، وَاحِدَتُهُ لِينَةٌ، وَقِيلَ: هِيَ الأَلْوانُ، الْوَاحِدَةُ لُونَة فَقِيلَ لِينَةٌ، بِالْيَاءِ، لِانْكِسَارِ اللَّامِ، قَالَ ابْنُ سِيدَهْ:(وَالْجَمْعُ لِينٌ ولُونٌ ولِيَانٌ؛يُقَالُ: كَيْفَ تَرَكْتُمُ النَّخْلَ؟ فَيُقَالُ: حِينَ لَوَّنَ، وَذَلِكَ مِنْ حِينِ أَخذ شَيْئًا مِنْ لَوْنِه الَّذِي يَصِيرُ إِلَيْهِ، فَشَبَّهَ أَلْوانَ الظَّلَامِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ يَكُونُ أَولًا أَصفر ثُمَّ يحمرُّ ثُمَّ يسودُّ بِتَلْوِينِ البُسْرِ يصفرُّ وَيَحْمَرُّ ثُمَّ يَسْوَدُّ، ولَوَّنَ البُسْرُ تَلْويناً إِذَا بَدَا فِيهِ أَثَرُ النُّضج. وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ وغُرَمائه" اجْعَلِ اللَّوْنَ عَلَى حِدَته ..)، وقَالَ ابْنُ الأَثير:(اللَّوْنُ نَوْعٌ مِنَ النَّخْلِ قِيلَ هُوَ الدَّقَلُ، وَقِيلَ: النَّخْلُ كُلُّهُ مَا خَلَا البَرْنِيَّ والعجوةَ، تُسَمِّيهِ أَهل الْمَدِينَةِ الأَلوانَ، وَاحِدَتُهُ لِينَة وأَصله لِوْنَة، فقُلبت الْوَاوُ يَاءً لِكَسْرَةِ اللَّامِ)، وَقَالَ أَبو إِسْحَاقَ:(هِيَ الأَلوان، الْوَاحِدَةُ لُونَةٌ، فَقِيلَ لِينة، بِالْيَاءِ، لِانْكِسَارِ اللَّامِ)، ويقول صاحب (المعجم الوسيط 2/ 847):(اللَّوْن: صفة الْجِسْم من السوَاد وَالْبَيَاض والحمرة وَمَا فِي هَذَا الْبَاب واللون الأولي أحد أَقسَام الطيف الْأَصْلِيَّة ألوان وَالنَّوْع ، يُقَال أَتَى بألوان من الحَدِيث وَالطَّعَام وَتَنَاول كَذَا وَكَذَا لونا من الطَّعَام)، ويقول الإمام الزمخشري في (أساس البلاغة 2/ 185): لوّنت الشيء فتلوّن، ويقال: كيف نخلكم فيقولون: حين لوّن أي أخذ شْيئأ من اللون وتغيّر عمّا كان، وجئت حين صارت الألوان كالتلوين وذلك بعد المغرب أي تغيرت عنه يآته السواد الليل فلم يبق الأبيض فيمر أى العين أبيض ولا الأحمر أحمر، ولوّن الشي بفيه ووشّع إذا بدا في شعره وضح الشيب، ومن المجاز: عنده لون من الثياب: صنف منه، واشتريت من اللون وهو كلّ نوع من التمر سوى البرنيّ، وفي حديث عمر بن عبدالعزيز في صدقة التمر:(يؤخذ في البرني من البرنيّ وفي اللون من اللون، وكثت الألوان في أرض بني فلان، وغرس اللين: نخل اللون (ما قطعتم من لينةٍ) ورجل متلوّن: مختلف الأخلاق). ونستخلص من أقوال علماء ـ إخوة الإيمان ـ أن اللون له أربعة خصائص:1ـ التغير والتقلب وعدم البقاء على حال واحدة، والشاهد عليه ما ذكره صاحب مختار الصحاح (وَفُلَانٌ مُتَلَوِّنٌ) أَيْ لَا يَثْبُت عَلَى خُلُقٍ وَاحِد. وما ذكره الزمخشري: ورجل متلوّن: مختلف الأخلاق، 2 ـ التغاير والإختلاف بين كل نوع يغاير الآخر، ويكون بينهما فاصل يميز أحدهما عن الآخر، والشاهد عليه ما ذكرة ابن منظور:(ولَوْنُ كلِّ شَيْءٍ: مَا فَصَلَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ) والزمخشري، وذلك بعد المغرب أي تغيرت عنه يآته السواد الليل فلم يبق الأبيض فيمر أى العين أبيض ولا الأحمر أحمر، 3 ـ التدرج والتسلسل من مرحلة إلى مرحلة، والإنتقال من حالة إلى أخرى، والشاهد على ذلك ما ذكره ابن منظور عن ابن سيده:(فَشَبَّهَ أَلْوانَ الظَّلَامِ بَعْدَ الْمَغْرِب يَكُونُ أَولًا أَصفر ثُمَّ يحمرّ ثُمَّ يسودُّ بِتَلْوِينِ البُسْرِ يصفرّ وَيَحْمَرُّ ثُمَّ يَسْوَدُّ)، وكلام الزمخشري :(ولوّن الشيب فيه ووشّع إذا بدا في شعره وضح الشيب)، 4 ـ التعدد والتصنيف: والشاهد عليه ما ذكر صاحب المعجم الوسيط. (يُقَال أَتَى بألوان من الحَدِيث وَالطَّعَام وَتَنَاول كَذَا وَكَذَا لوناً من الطَّعَام)، ومن كلام الزمخشري:(حين لوّن أي أخذ شيئاً من اللون وتغير عمّا كان)، وإذا اللون بهذه الصفات وتلك الخصائص إذا كيف ندركه، ولماذا نستريح للون دون الأخر فضلاً عن تمييزنا بينها بسهولة على الرغم من تقارب بعضها من بعض أحياناً .. وللإجابة عن هذه الأسئلة تكون لقاءاتنا في المرات القادمة إن شاء الله تعالى.
*[email protected]