د.جمال عبدالعزيز أحمد:إنَّ كثيراً من الناس قد يفهم التدين فهمًا سطحيًّا مبتورًا، ويرى أن المرء إذا صلَّى الصلواتِ الخمسَ، وسبَح بعض تسبيحات، وقال الأكار المسنونة دبر كل صلاة، وحجَّ، واعتمر، فلا عليه بعد ذلك أن يفعل أيَّ شيء، ولا مساءلة له فيما يأتي أو يدع، ويظن أنه بذلك قد أقام دينه، وأدَّى ما عليه تجاه ربه، ولكن الحقيقة الغائبة عن أذهان الكثيرين أن ديننا ليس دين شكلياتٍ، أو مظاهر، وليس مجردَ طقوس تؤدَّى، ولا تمتماتٍ تُقال، ولا هو أفعالٌ ليس وراءها طائل من قيم أو خلق أو تعامل راق، إنما مفهوم التدين الحقيقي يكمن في أن يكون المسلم وقَّافًا عند حدود الله، عاملا بأوامره، ونواهيه، صادقًا في التزامه، وعباداته، وهذا يستتبع منه الالتزام بتكاليف كبيرة، ويراقب ربه طيلة يومه، وليله، وفي سفره، وإقامته، وحله، وترحاله، وفرحه، وترحه، بيعه، وشرائه، وأخذه وعطائه، حربه، وسلمه، خصامه، وصلحه، بمعنى أن يكون ربه في باله طيلة حياته، ومع كل نفَس يصدر عنه، وفعل يقوم به، ولفظ يتلفظه ، ونظرة، وخطرة، وبسمة، ودمعة، ونبضة قلب، وسورة الماعون تعطينا صورة واضحة عن هذا المفهوم الحقيقي للتدين، حيث بدأت آياتها بتساؤل يسترعى صدق الانتباه، وحسن الإصغاء، وجميل التأنِّي، وعمق الفهم، قال تعالى:(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ)؟، أي هل عرفت هذا الذي لا يكذِب فقط بل يكذِّب بالدين (بتضعيف الذال المكسورة الذي يفيد تكرار تكذيبه، وصده) وقال القرآن:(يكذِّب بالدين ) ولم يقل:(يكذِّب الدينَ )، أيْ أنه انتهى من التكذيب، وصار أداة للصد عن سبيل الله ، وبُوقًا يذم تعاليم الدين، وينتقص من قدرها، ويذكر عدم صلاحيتها لهذا العصر، وأنها لا تواكب التطور، وأنها نزلت لعصر محدد، راح، وانتهى، وانتهت معه أحكامها وقيمتها ، ويظل يعمل على تشويه صورة الدين، ويجتهد في إبعاد الناس عنه، فيسخِّر قلمه ـ إن كان ممن يحسن الكتابة ـ ليكره الناس دينهم ، ويسهر ليلَ نهارَ يتفنن في تنفير الناس منه، وإبعادهم عنه، رغم أنه يشهد الشهادتين، وأنه يصلي ، وهو مسلم، إلا أنه لم يقف على المفهوم الحقيقي للتدين ، ولم يلتزم حقَ الالتزام بتعاليمه ، فهو سؤال وارد في مطلع السورة الكريمة يستجمع النفس، ويلملم العقل، ويشدُ النفس ، ويشحذ الذهن والهمم في أن تعرف من هذا الذى تعدَى مرحلة أن يكذِب (بتخفيف الذال مكسورة) إلى أن صار يكذِّب بالدين (بتشديد الدال مكسورة) والعياذ بالله ، فتأتي الإجابة سريعا محمَّلة ومشتملة بفاء السرعة، وهي تلك الواقعة في جواب شرط محذوف؛ تسريعا ببيان ماهيته ، وتوضيح شأنه ، ويا للهول من الجواب بعد هذا المطلع، ووراء هذا التساؤل !. إنه لم يقل : هو ذلك الرجل الذي كفر بالله، أو سب شريعة الله، أو كفر بالصلاة، أو امتنع عن عمد عدم دفع الزكاة، أو قال مثلا : إن الحج صار عبادة شاقة لا تجوز في هذا الزمان.إنه لم يتفوَه بهذا الكفر الصراح ، ولم ينكر معلوما من الدين بالضرورة ، لكنه تنكَّب طريق الدين الصحيح ، والفهم السليم لأحكامه، ولم يفقه مقاصده، ومرامه، وراح يضرب ثوابت المجتمع المسلم ، ولا يشارك في بنائه، وتطوره، واستقراره، بل يسعى بفهمه الضيق للدين وعدم وقوفه على مقاصده الكبرى في إعاثة الفساد، وتدمير أركان المجتمع المسلم، وتقويض مقوماته، ثم شرح القرآن بعدها طبيعة هذا المكذب، وصفاته؛ حتى لا نقترف شيئا منها، وهي كلها داخلة في إطار الاجتماعيات وأدبياتها، من حيث مراعاة حقوق طائفة كبرى مهضومة في المجتمع هي فئة اليتامى، والمساكين، وعدم مراعاة حاجة الناس، ومنع الماعون، والعون عنهم، وهم في مسيس الحاجة إليه ، ودأبهم وشأنهم الجري وراء الرياء، والمباهاة والمفاخرة التي تدعو إلى تنافس غير شريف، يقول الله تعالى:(فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ)، فهو لا يكتفي برده من غير جواب ،وإنما يدعُّه، أي يدفعه دفعًا شديدا، حتى إنه ليزحف على الأرض خطواتٍ من أثر الدع، والدفع الشديد، أو لعل مجىء الدال والعين المضعفة ما يوضح هذا أثر الدَّعِّ، وذلك الدفع الشديد ، وما عاناه هذا اليتيم نفسيا وجسديا من هذا المكذِّب ، رغم أن اليتيم لا أب له، فقدفقده قبل البلوغ، وعاش حياة الحرمان وعدم الاستقرار، ونظر الناس إليه، وكان الأمر يتطلب أن يُحَنَّ عليه، ويرأف به، وتوضع اليد الحانية على شعره،ورأسه وجسده، فتخفف عنه، وتلطف به ، وتقوم بشيء مما حُرِمَ منه، حيث حُرِمَ من نعمة الأبوة الحانية، والرعاية السامية، لكنَّ المكذب بالدين يزيد ألمه، ويضاعف حزنه ، ويدفعه دفعًا يكره معه الحياة، ويتمنى حياله الموت، وتجرُّع غصصه، وعذاباته، ورجاء أن يذوق المنايا أكؤسا، وألوانا حتى يخرج من هذه الحياة القاسية بمكذِّبيها سليما في دينه، معافى في بلده.فأول صفة من صفات المكذب بالدين ليست هي سبَّ الدين، ولا التنكر لتعاليمه الأساسية، وإنما هي دعُّ لليتيم، وعدم القيام بحقه، ولا النهوض لمسح ألمه، وإزالة حزنه، والتخفيف عن آلامه، ومحنة فقد أبيه العائل الحنون له، والقلب الرؤوم لمطالبه، الذي لا يراه، ولا يجده الآن، ثم تأتي الصفة الثانية من صفات ها الشخص الذي تتحدث عنه الآيات الكريمة، ذلك الذي لا يفهم التدين على وجهه الأنور، ومعناه الأزهر، يقول تعالى:(وَلَايَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)، والمسكين الذي أمسكه الفقر، وأقعدته الحاجة، وأفقدته المسغبة ، فيحتاج إلى أن يُحَنَّ عليه، ويرأف به الناسُ ، فيجد مَنْ يحض على الإحسان إليه، ويحث الناس على إطعامه، والنظر في شأنه، والقيام بمتطلباته، لكن هذا المكذِّب لا يعيه مثل هذا، ولا يسترعى انتباهه فاقة ولا عوز، ولا يحرك ذلكله ساكنا في داخله، فيترك الحضَ، ويجتنب الحث على إطعامه، مع أنه يراه أحوجَ الناس، وأكثرهم فاقة، وتلك لعمرو الحق ـ ظاهرة المساكين وذوي الحاجات والمعوزين ـ قضية واضحة في كثير من المجتمعات المسلمة الفقيرة، وهي ظاهرة اجتماعية لشريحة كبيرة من الفقراء في المجتمع، قد لا يراها الكثير من الناس، وهي بالفعل قنبلة موقوتة... وللحديث بقية.* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية[email protected]