[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
"الطريق إلى دمشق" عنوان يحمل معاني ورؤى ومعجزات في الديانة المسيحية، لا سيما عند أتباع الكنيسة الأرثوذكسية على الخصوص، فهو طريق هداية، وفيه حدثت معجزة من أهم المعجزات.. وقد جاء ذلك في نصوص ووقائع كنسية تتعلق بالقديس بولس الذي هو شاؤول اليهودي.. فقد كان شاؤول من أشد المعادين للمسيح وأتباعه يلاحقهم ويبطش بهم ويضطهدهم.. وكان من سيرته، كما جاء في سفر أعمال الرسل للقديس لوقا ١/٩/ النص الآتي: ((أما شاول فكان لم يزل ينفث تهددا وقتلا على تلاميذ الرب، فتقدم إلى رئيس الكهنة وطلب منه رسائل إلى دمشق، إلى الجماعات، حتى إذا وجد أناسا من الطريق، رجالا أو نساء، يسوقهم موثقين إلى أورشليم. وفي ذهابه حدث أنه اقترب إلى دمشق فبغتة أبرق حوله نور من السماء.. فسقط على الأرض وسمع صوتا قائلا له: شاول، شاول لماذا تضطهدني.. فقال: من أنت يا سيد؟ فقال الرب: أنا يسوع الذي أنت تضطهده. صعب عليك أن تَرْفُسَ مَنَاخِس.. فقال وهو مرتعد ومتحير: يا رب، ماذا تريد أن أفعل؟ فقال له الرب: قم وادخل المدينة فيقال لك ماذا ينبغي أن تفعل.. وأما الرجال المسافرون معه فوقفوا صامتين، يسمعون الصوت ولا ينظرون أحدا.. فنهض شاول عن الأرض، وكان وهو مفتوح العينين لا يبصر أحدا. فاقتادوه بيده وأدخلوه إلى دمشق.. وكان ثلاثة أيام لا يبصر، فلم يأكل ولم يشرب..)) وبعد ذلك الحدَث، وبعدما أدخل إلى دمشق من منطقة في سورها تقع بين بابي "كِيسان" و"الباب الشرقي"، قارب أتباع المسيح آمن به، وأصبح من أهم المبشرين بالمسيحية ومن أهم دعاتها، وغير اسمه وحمل اسم بولس الرسول.. ولذا يرتبط ذكر "الطريق إلى دمشق" عند كثير من المسيحيين بالمعجزة والهداية وبما يستتبعهما من سلوك قويم وزهد في الدنيا.
وقد كان لذلك الطريق ولما وقع فيه من معجزة حوَّلت يهوديا أنموذجا في التعصب والعداء والبطش بالمؤمنين هو شاؤول من يهودي عنصري بطاش ظالم متعصب إلى مسيحي مؤمن برسالة عيسى ابن مريم وببعدها الإنساني.. ففي أثناء زيارة الرئيسين فلاديمير بوتين وبشار الأسد للكنيسة "المَرْيَميَّة" بدمشق في ٧/١/٢٠٢٠ بمناسبة أعياد الميلاد حسب التقويم الشرقي، تقويم الكنيسة الأرثوذكسية، دار حديث قصير وهما في الطريق إلى الكنيسة الواقعة في المنطقة التي حدثت فيها المعجزة، حيث اهتدى شاؤول اليهودي ذو النظرة الضيقة والتعصب المُفرِط الذي كان يشتد في ملاحقة المسيحيين وتعذيبهم.. اهتدى إلى المسيحية والتسامح والمحبة على مداخل دمشق في تلك المنطقة من دمشق بين "الباب الشرقي" و"باب كِيسان" وهما بابان من أبواب سور دمشق، وأصبح "شاؤول" مبشرا عالميا بالمسيحية وحمل اسم القديس بولس أو بولس الرسول، وكان زمنه بين عامي "2م - 64م". في أثناء زيارة الرئيسين للمكان، وبينما كان الرئيس بشار يخبر الرئيس بوتين بقصة القديس بولس الذي تحوَّل إلى المسيحية على أعتاب دمشق، أضاف مازحا: "إذا وصل ترامب على هذا الطريق، كل شيء سيصبح طبيعيا بالنسبة له أيضا".. وضحك بوتين وقال، ردا على ما قاله مضيفه: "سيتم إصلاح الأمر.. أُدعوه.. وسيأتي."، وأجاب الرئيس الأسد قائلا: "إنه مستعد لدعوة ترامب"، ليردّ بوتين باسما: "سأُخْبِرُه".
لم يحدث شيء مع الرئيس ترامب، ربما لم يخبره الرئيس بوتين، وربما تأخرت الدعوة أو "لاصت" في المكاتب، وربما لم تصل، وربما ضلَّ ضلالا بعيدا ولم يسمع شيئا عن "الطريق إلى دمشق"، وربما.. وربما.. لكن المؤكد مما نراه ونسمعه ونتابعه، أنه ما زال شاؤول العنصري المتعصب المعادي للإيمان الذي يتجبَّر ويبطش.. لكن بالمسلمين، وبالفلسطينيين خاصة والعرب عامة من بين المسلمين.
قرأت أن للرئيس ترامب مُتَعَه الخاصة، وربما لم تكن السياحة الدينية إحداها، وقد تابعت الأخبار عن متع من أنواع أخرى أهمها متعة "إدمان حب المال، وإدمان العنصرية والصهيونية، والإضرار بالمؤمنين والأخيار والأحرار.. ولأنني لم أحص مُتَعَه ولا أحدها بحد.. فإنني أقول بإمكانية استمتاعه بالعروض الفنية لأنه يحب الاستعراض ويؤديه، ولذا ربما يستمتع بالأدب المسرحي أو يستغيه، لا سيما بالنوع التعبيري من النصوص المسرحية التي يجيدها مُواطنُه الكبير يوجين أونيل الذي كتب "الامبراطور جونز" و"القرد الكثيف الشعر" وغيرها وغيرها.. غير أنني أريد أن أشير إلى نص تعبيري في إطار "مسرح الحُلُم" الذي كتبه السويدي المتنوع الأداء جوهان أوجست ستريندبرج Johan August Strindberg "١٨٤٩ - ١٩١٢ الذي يعد من رواد الاتجاه التعبيري والنفسي في المسرح، وبمسرحية لهذا الكاتب تحمل عنوان "الطريق إلى دمشق".. ففي مرحلة متأخرة من حياته كتب ستريندبرج مسرحيات من نوع "الحُلُم"، منها ثلاثيته "الطريق إلى دمشق" التي نشرت في عامي ١٨٩٨ و١٩٠١ ويبدو أنه هو نفسه بطلها..
في هذه المسرحية يتخلى البطل عما كل ما يملك وعن الشهرة والنساء، ويتجه إلى دير غير طائفي ولا متعصب للعقيدة المسيحية، ويكرس حياته للتأمل وخدمة الإنسانية بانقطاعٍ لذلك الشأن من شؤون الحياة والناس. ويلخص الكاتب هذا المسار بقول إحدى شخصيات المسرحية للبطل، أي له: "لقد بدأت حياتك بقبول كل شيء ثم أنكرت كل شيء، والآن تحاول استيعاب كل شيء".. وفي هذه المسرحية يصور شعور الإنسان بالضياع وعدم الانتماء والبحث عن معنى في عالم لا يمكن فهمه. في هذا اللون من المسرحيات نهج ستريندبرج نهجا واختار أسلوبا جديدا.. فأنتج مسرحية الأحلام التي مهدت للسوريالية.. ويمتاز هذا النوع الذي كتب فيه عدة مسرحيات من أشهرها "سوناتا الشبح"، يمتاز ببعده شبه المطلق عن الواقع وإغراقه في الذاتية.
في مسرحية "الطريق إلى دمشق" تتجلى سوريالية تعرضها الأحلام والتهيؤات والأشياء الذاتية الخاصة. ولم يكن ستريندبرج يخبط خبط عشواء عندما كتب هذا اللون من المسرحيات، إنما كتب حسب هدف وضعه هو.. فقد صرح بأنه "حاول محاكاة أسلوب الأحلام بما فيه من تفكّك وبما فيه من منطقية. كل شيء محتمل وممكن الوقوع، إن الزمان والمكان لا وجود لهما، فمن إنسان واقعي تافه يمكن للتمثيل أن يبتكر عددا من الذكريات والخبرات والخيالات السابحة والسّخافات والأعمال المرتجلة. إن الشخوص تنقسم وتتكاثر وتختفي وتتجمد وتبهت وتضج معالمها، ولكن شعورا واحدا يسيطر عليها جميعا هو شعور الحالم. وفي هذا الوجود لا أسرار ولا تناقضات أو قوانين أو نوازع للضمير.. كما لا يوجد هنا إدانة أو إعفاء بل مجرد سرد لقصة. وبما أن الحلم غالبا ما يكون مؤلما وقلما يكون سارا، فإن القصة تسري فيها رنّةُ الأسى والعطف على المخلوقات. ويلعب النوم، على الرغم من تحريره لنا من قيود الواقع، يلعب دورا مؤلما في غالب الأحوال.. وعندما يبلغ الألم أقصاه يستيقظ الإنسان ليلائم نفسه مع الواقع الذي يكون، على الرغم من مرارته، أسعد حالا من عذاب الأحلام".
هذه هي وجهة نظر ستريندبرج في محاولة كشفه الجديد لعالم جديد. وأهم مسرحيات هذا الكشف "سوناتا الشبح" كما أسلفت.. وهي كشف واسع النطاق لزيف وخداع كبيرين غلّفا حياة عدد من الشخصيات تكاد تعطي صورة عن مجتمع بأكمله. وتقود حملةَ الكشف شخصيةُ رجل عجوز مقعد يصنع الأعاجيب. وها هو يحاصر بيتا من البيوت التي تظهر كنموذج للبيت المثالي الذي يطمح الناس إلى مجرد الدخول إليه، فضلا عن أن يكوّنوا بيوتا على شاكلته، والأسرة التي تعيش فيه تعد من أفضل الأسر وأرقاها. ونظرا لأن العجوز يعرف السوء الذي تغوص فيه الأسرة، فقد قرر أن يجد لابنته شابا نظيفا فأوقع طالبا بين مخالبه.. ولكي يضمن لابنته وللشاب جوا نظيفا في المستقبل قرر أن يكشف الفساد في ذلك البيت. ولذلك عرَّى الكولونيل صاحب البيت والسوابق الذي لم يكن لا نبيلا ولا "كولونيلا" وجرَّده تماما، وعرى الزوجة التي كانت خطيبة سابقة له هو العجوز، وبدأ يقدم سلسلة حسابات غريبة. ولكن الزوجة التي اعتكفت عشرين سنة في صيوان صغير بالمنزل لا تخرج منه حتى أصبحت كأنها مومياء تنطق كلمات معينة بطريقة معينة، حتى لتخال أن في البيت ببغاء لا كائنا حيا، الزوجة تواجه العجوز بحزم غريب وتبطل أسلحته كلها. لقد أوقفت عقارب الساعة، والتفتت إليه تقول:
"أستطيع أن أوقف الزمن عن سيره، أن أمحو الماضي وأصلح ما فسد، ولكن لا بالرشوة ولا بالتهديد.. بل بالمعاناة والتوبة. نحن مخلوقات تعسة، تعلم هذا. لقد أخطأنا وأذنبنا كما فعل من عدانا، على أننا لسنا كما نبدو لأننا في أعماقنا خير من أنفسنا ما دمنا نكره خطايانا، ولكن عندما تختار أنت يا جوزيف هامل باسمك المزيف أن تجلس منا مجلس الحكم، فإنك تسجل على نفسك أنك أسوأ منا نحن الخُطاة التعساء.. لأنك لست الإنسان الذي تبدو في ثيابه. أنت لص للنفوس الإنسانية، أنت سرقتني مرة بالوعود الكاذبة.. أنت قتلت الكولونيل الذي دُفن اليوم، أنت سرقت الطالب بعد أن قيدته بإدعاء دَين على أبيه الذي لم تُداينه بفلس واحد أبدا. ولكن هناك نقطة غامضة في حياتك لست على ثقة تامة من كنهها على الرغم مما عندي من شبهات."(مسرحية سوناتا الشبح. تأليف ستريندبرج ـ ترجمة: محمد توفيق مصطفى ـ 304). وتمضي المومياء بالكشف عن تلك الشبهة، ويتضح أن هذا العجوز مجرم قديم، وقد أخذ فتاة بائعة لبن صغيرة وأغرقها لأنها اطلعت على جريمته، وهو يخشى ولا يستطيع أن يرى أية بائعة لبن. وعندما يُعرّى على هذا النحو تطلب إليه المرأة المومياء أن يدخل خلف حاجز معد في البيت دائما ليموت خلفه من أصبح موته محتما. وهناك يشنق العجوز نفسه لأنه سيئ إلى درجة لم تعد محتملة.. ولا بد أن يموت هو أولا إذا أراد أن يهيئ للطالب وللفتاة ابنته حياة سعيدة.
في الفصل الأخير من المسرحية نجد الفتاة والطالب وهما يتبادلان حوارا عن الحياة والمُتع، يشبه المقبلات التي تفتح النفس للطعام، لكنا نشعر بأن كلا منهما لا يُقبِل على الحياة بنفس مفتوحة.. كأنما هناك حائل أو جدار، وتستمر لعبة تقبُّل الحياة معا.. لعبة الإيهام والخداع التي تسهِّل العيش.. لكن الفتى الطيب يصل إلى نهاية المطاف فيقول لفتاته: "تصوري أن أجمل الأزهار تكون سامة إلى مثل هذا الحد، بل أشدها تسميما. إنها لعنة تحيق بالخليقة كلها.. بالحياة ذاتها. لماذا لا تكونين زوجتي؟! لأن ينبوع الحياة ذاته في داخلك سقيم. من السموم ما لا يذهب بالبصر، ومنها ما يفتح الأعين. ويبدو أنني ولدت وفي دمي ذلك النوع الأخير لأنني لا أستطيع أن أرى القبيح جميلا، ولا أن أسمي الشر خيرا. يقولون إن المسيح قد هبط إلى الجحيم.. إنهم يقصدون مجيئه إلى هذه الأرض.. إلى مصح المجانين هذا، إلى هذه المقبرة" (المصدر السابق ـ ص 325).
وعند هذا الحد تنكشف النهاية أمام الفتاة وتموت خلف الساتر المعدني هي الأخرى وتختفي، فيترحم عليها الشاب، ويعد أن المنقذ قد رئف بحقها. وتنتهي المسرحية بأنشودة تفيض سماحة.
ويتجلى في هذه المسرحية بوضوح تشاؤم ستريندبرج، لكن تشاؤمه حصاد معاناة واعية في حياة لا يريد صاحبها أن يتلهى بتصيد الفرح على أرصفة الدنيا ببلاهة مطلقة.. ولا يريد أن يعيش الوهم ويسعى إليه متقنِّعا بألف قناع ليستسيغ لقمةً مُرة كل يوم تشكل بمجموعها لقيمات الحياة ومراحلها.. إنه يريد الطهارة والنقاء والوضوح، يريد الحياة في ظل الصراحة والبراءة والصدق، يريد أن تأخذ الحياة مجراها بنقاء كما تأخذ زهرة الأوركيد الماء وتحوّله إلى عطر ولون جميل، من دون أن تكون سامة شديدة السمية على الرغم من جمالها وعطرها، يريد ويريد.. ولكن هذا لا يتوافر له في دنيا الأحياء التي تقوم على الخديعة والمكر والزيف، ويسيطر فيها مخادعون ومجرمون وعنصريون يقتلون حتى الأمل وشعاع النور في الأعين..
فهل من مُعْتَبِر.. وهل من سالك على طريق كطريق دمشق الإعجازي ذاك الذي حوَّل شاؤول اليهودي العنصري القاتل الفتاك.. إلى مؤمن برسول المَحبة، ومبشر برسالته؟!
أظن أن الرئيس بوتين لم "يخبِر" الرئيس ترامب بالدعوة.. وأعتقد أن ترامب لن يسلك "الطريق إلى دمشق"، وأنه حتى إذا سار فيها فلن تلامس قلبه المعجزات..
ونسألك اللهم ألَّا تجعلنا ممن ينطبق عليهم قولك الكريم في سورة البقرة:
﴿خَتَمَ اللَّـهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴿٧﴾.