محمود عدلي الشريف:
توقف بنا الحديث في المقال السابق ـ قرائي الكرام ـ عند أقوال العلماء الذين يقولون أن الله تعالى جعل اختلاف ألوان البشر من آياته، إلا أن الطبيعة لها دور في تشكيل ألوانهم، جاء في (موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ج1، ص: 183) عُرِفَ علميّاً: "أنّ في أدَمَةِ الجِلْدِ خلايا عنكبوتيّةً أيْ: على شكلِ العنكبوتِ، تمْتدُّ على جوانبِها زوائدُ رقيقةٌ، يصِلُ عددُ هذه الخلايا في كلِّ بوصَةٍ مربّعةٍ إلى ستِّينَ ألفَ خليّةٍ، إنه لا اختلافَ في عددِ الخلايا بين أبْيضَ وأسْوَد، فإنّ الخلايا في الإنسانِ الأبْيَضِ والإنسانِ المُلوَّنِ عددٌ ثابتٌ، ولكنَّ اختلافَ التلوينِ نابعٌ مِن كثافةِ المادّةِ الملوّنةِ، وهذه المادّةُ الملوّنةُ اسمُها الميلانين، إنّ بين إنسانٍ ناصع اللّونِ، وإنسانٍ داكنِ اللّونِ فرْقاً في هذه المادّةِ الملوّنةِ لا يزيدُ على غرامٍ واحدٍ، لكنّ الشيءَ الذي يَلفِتُ النَّظَرَ أنّ هذه الخلايا تتناقصُ بِمُعّدلِ عشرٍ إلى عشرينَ في المائةِ كلَّ عشرِ سنواتٍ، لذلك يميلُ جلدُ الإنسانِ مع تقدّمِ العمرِ إلى أنْ يصبِحَ أكثرَ نصاعةً، وأكثرَ بياضاً، ولكنّ هذا لا يَعْنينَا، بل يعنينا ترسّبُ هذه المادّةِ الملوّنةِ في الخلايا العنكبوتيّةِ التي تحتَ أدمةِ الجلدِ، والتي يزيدُ عددُها في البوصةِ المربّعةِ الواحدةِ على ستِّينَ ألف خليةٍ، حيث إنّ نسْبةَ هذه المادّةِ الملوّنةِ تُحَدِّدُها المورّثاتُ في نُويّةِ الخليّةِ، ولكنْ ما العلاقةُ، وما تفسيرُ تلك الألْوانِ الداكنةِ عند الشّعوبِ التي تعيشُ في خطّ الاسْتِواءِ، على أنّ الشّعوبَ التي تعيشُ في قطبِ الكرةِ الشماليِّ أو الجنوبيِّ ألوانُها ناصعةٌ؟ هنا حِكمة الله عز وجل، قيل: إنّ المادّةَ الداكِنَةَ مِن خصائصِها أنّها تمْتصُّ الأشِعّةَ فوقَ البنفْسَجِيّةِ الضارّةَ، ولأنّ أشعّةَ الشمسِ في خطِّ الاستِواءِ عموديّةٌ شديدةٌ كانت الشعوبُ في هذه المنطقةِ ذاتَ ألوانٍ داكنةٍ، إنّ اختلافَ ألوانِ البشرِ آيةٌ دالّةٌ على عظمةِ اللهِ عز وجل، وينبغي أنْ نُدَقِّقَ فيها، وأنْ نقفَ عندها، وأنْ نبْحثَ عن السّرِّ الذي تنْطوي عليه، إنَّك إنْ نظرْتَ بِعَيْنِكَ إلى وُجوهِ الناسِ فلا ترى إنساناً له لونٌ كلوْنِ آخرَ، فلو صوَّرْتهمْ بآلةٍ لوجَدْتَ أنّ اللّونَ موحَّدٌ تقريباً، ولكنك إذا نظرْتَ بِعَيْنِكَ إليهم رأيْتَ كلَّ إنسانٍ له لونٌ خاصٌّ، بل إنّ العينَ البشريّةَ كما هو ثابتٌ تفرّقُ بين ثمانمئةِ ألفِ درجةٍ من اللونِ الواحدِ! فهي ذاتُ الدِّقَّةِ العاليةِ التي تفرّقُ بين الدّرجاتِ الدقيقة في التّلوينِ،عَنْ أبِي نَضْرَةَ حَدَّثَنِي مَنْ سَمِعَ خُطْبَةَ رَسُولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) فِي وَسَطِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ فَقَالَ:"يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَلا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلا لاَ فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيٍّ، وَلا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلا لأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلاَ أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ إِلاَّ بِالْتقْوَى"، وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:"إِنَّ الله لاَ يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ"، وثالثاً: من قالوا أن اختلاف ألوان البشر نتيجة اختلاف التربة التي خلقوا منها: ـ وهذا الرأي استند أهله إلا أن الإنسان مختلف ألوانه نظراُ لأن للتربة التي خلق منها، واستدلوا بأدلة كثيرة منها :قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى وَمُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَر، حَدثنَا عَوْف، حَدَّثَنى قسَامَة ابْن زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) قَالَ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ آدَمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ جَمِيعِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ، فَجَاءَ مِنْهُمُ الْأَبْيَضُ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَبَيْنَ ذَلِكَ" وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ وَابْنُ حِبَّانَ فِي صَحِيحه .في هذا الحَديثِ يُبيِّن النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كيفيةَ خَلْق آدمَ ـ عليه السَّلامُ ـ وذُرِّيتِه، فيقول: إنَّ ابتداءُ خَلْقِ الإنسانِ مِن قَبْضَتِه سبحانه وتعالى، والقبضة: هي ما يُضمُّ عليه بالكفِّ، مِن جَميعِ الأرضِ أي: مِن جميعِ أجزائِها؛ مِن طيِّبها وخَبيثِها ومُختلَفِ ألوانها، كما قال تعالى:(مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (طه ـ 55)، فجاءَ بنُو آدَمَ على قَدْرِ الأَرْضِ أيْ: مِن الأشكالِ والطِّبَاعِ، فمِن أَبيضِها جاء الأبيضُ، ومِن أسهَلِها جاءَ السهلُ، وهكذا جاء منهم الأحمرُ كالتُّركِ، والأبيضُ كالعَربِ، والأسودُ كالحُبشِ، فالكلُّ جاءَ بحَسب تُرْبتِه، وهذِه هِي أُصولُ الألوانِ، والباقِي مُرَكَّبٌ منها، كما قال:(وبيْن ذلك) أي: وغير هذِه الألوانِ أجزاءٌ منها ومرَكَّبٌ منها، وهذا ما كان مِن الألوانِ، وأمَّا ما كان مِنَ الطِّباعِ؛ فمنها: اللَّيِّن الرَّفِيق، وغَلِيظ الطَّبْع الجَافِي العَنِيف، ومنها: خَبِيثُ الطَّبْعِ والصِّفَات، تربتُه سَبِخَةٌ كلُّها ضُرٌّ، وطيِّبُ السَّريرِة والخِصَال تربتُه خِصْبَةٌ كلُّها نَفْعٌ، فالكلُّ جاءَ بطَبْعِ أرضْه، كما قالَ تعالى:(وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا) (الأعراف ـ 58)، (وبَينَ ذلك) أي: ومِنها الذي يَشتمِلُ على خَلْطٍ بين ما هو حَميدٌ طيِّبٌ وبين ما هو خبيثٌ وسيِّئٌ، أو أنَّ منها ما يَغلِبُ خُبثُه طيبَه، ومنها ما يَغلِبُ طيبُه خُبثَه.. و"قال وهب بن منبه" لما أراد الله أن يخلق آدم أوحى إلى الأرض : أيأفهمها وألهمها إني جاعل منك خليفة، فمنهم من يطيعنيفأدخله الجنة، ومنهم من يعصينيفأدخله النار" فقالت الأرض" منى تخلق خلقا يكون للنار" قال: نعم ، فبكت فانفجرت منها العيون إلى يوم القيامة، وبعث إليها جبريل ـ عليه السلام ـ ليأتيه بقبضة من زواياها الأربع من أسودها وأبيضها وأحمرها وأطيبها وأخبثها وسهلها وصعبها وجبلها ، فلما أتاها جبريل ليقبض منها قالت الأرض " بالله الذي أرسلك لا تأخذ منى شيئا" فرجع جبريل ـ عليه السلام ـ إلى مكانه ولم يأخذ منها شيئا، فقال" يا رب حلفتني الأرض باسمك العظيم، فكرهت أن أقدم عليها"، فأرسل الله ميكائيل ـ عليه السلام ـ فلما انتهى إليها قالت الأرض له كما قالت لجبريل فرجع ميكائيل فقال كما قال جبريل ، فأرسل الله إسرافيل ـ عليه السلام ـ وجاء ولم يأخذ منها شيئا وقال مثل ما قال جبريل وميكائيل، فأرسل الله ملك الموت فلما انتهى قالت الأرض " أعوذ بعزة الله الذي أرسلك أن تقبض منى اليوم قبضة يكون للنار فيها نصيب غداً" فقال ملك الموت: وأنا أعوذ بعزتهأن أعصى له أمراً، فقبض قبضة من وجه الأرض مقدار أربعين ذراعاً من زواياها الأربع ، فلذلك يأتي بنوه أخيافاً :أي مختلفين على حسب اختلاف ألوان الأرض وأوصافها فمنهم الأبيض والأسود والأحمر واللين والغليظ فصار كل ذرة من تلك القبضة أصل بدن للإنسان فإذا مات يدفن في الموضع الذي أخذت منه، ثم صعد إلىالسماء فقال الله له:"أما رحمت الأرض حين تضرعت إليك"، فقال:"رأيت أمرك أوجب من قولها"، فقال:"أنت تصلح لقبض أرواح ولده "قال في روضة العلماء" فشكت الأرض إلى الله تعالى وقالت:"يا رب نقص منى" قال الله على أن أرد إليك أحسن وأطيب مما كان "فمن ثمة يحنط الميت بالمسك والغالية .. انتهى". انظر (قصص الأنبياء لابن كثير، ج1، ص:39، تحقيق: مصطفى عبدالواحد، ومسند أحمد ج4، ص: 400 ـ 406)، وذكرها (ابن الأثير في الكامل ج1، ص:231):"فأمر الله تعالى عزرائيل فوضع ما أخذ من الأرض في وادي نعمان بين مكة والطائف بعد ما جعل نصف تلك القبضة في النار ونصفها في الجنة، فتركها إلى ما شاء الله ثم أخرجها، ثم أمطر عليها من سحاب الكرم فجعلها طيناً لازباً وصور منه جسد آدم .. إلخ). انظر (روح البيان لإسماعيل حقي1/ 98)، وانظر:(تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن لمحمد الأمين بن عبدالله الأرمي العلوي الهرري ـ محقق ـ ج1 ص296)، وغيرهما،"وكان مقتضى خلق آدم منها كلها أن يكون كل من هذه الألوان والطباع فيه وفي بنيه إلا أنه كان غلب على كل نوع من بنيه لون ولا مانع من اجتماعها في آدم وإن كان غالب لونه الأدمة لكنه فيه غلب ما طاب على ما خبث لأنه عجنه بماء الجنة كما يأتي وكأنه خصه بأثر ذلك فيه وإلا فإن بنيه من طينته وماء الجنة في جبلتهم (التنوير شرح الجامع الصغير للصنعاني 3/303، تحقيق/د. محمَّد إسحاق محمَّد إبراهيم)، وقال المحقق: أخرجه أحمد (4/ 406) وأبو داود (4693) والترمذي (2955) وقال: حسن صحيح والحاكم (2/ 61) وقال: صحيح الإسناد. وصححه الألباني في صحيح الجامع (1759) وفي السلسلة الصحيحة (630)، وهكذا يثبت أصحاب هذا الرأي اختلاف أنواع البشر من أنواع الطين المختلف الألوان الذي خلقوا منه.
.. وللحديث بقية.
*[email protected]