توقف بنا الحديث أعزاءنا الكرام عند إبداع القدرة الإلهية في الألوان، ومن أجمل ما قرأت عن إبداع صنعه تعالى، ما ذكره صاحب كتاب:)الوحي والإنسان ـ قراءة معرفية، ص: 165) فإذا ألقيت سمعك أو قلبت ناظريك في العالم الذي تعيشه، ترى فيه من العجائب ما يُبهر العقول، فانظر ملياً في هذه الأرض التي جعلها الله مهاداً للإنسان، وجعلها كفاتاً لحاجاته من الطعام والشراب, يلقي فيها البذرة والحبة فتتغذى بماء واحد, وتربتها واحدة, وتتنفس هواءً واحداً، ومع وحدة الأصول والمصادر تختلف الألوان, وتتنوع المذاقت، فهذا ثمره حلو وذاك مر وهذا حامض وذاك حارّ، فانظر كيف تتحد الأصول وتتنوع الثمار، وتختلف ألوانها فهذا لونه أبيض وذاك أحمر أو أخضر، ليقرأ فيها العقل طلاقة قدرة الخالق وكمال إرادته، كيف يتحول الماء العذب في جذوع هذه الثمار إلى مرارة في بعضها وحلاوة في بعضها الآخر، كيف يتم ذلك داخل هذا المصنع النباتي إلا إذا كان الصانع مطلق الإرادة والقدرة يفعل ما يشاء وكيف يشاء، ولايقولن أحد: إن ذلك محكوم بطبيعة البذرة وخصائصها، لأن ذلك من لغو الحديث، فإن الذي طبع الثمار وخلقه أعلى هذا النحو العجيب هو هو الذي جعلها مصنعاً لهذه الثمار المتنوعة طعماً ولوناً وشكلاً.
إذا تأملت جسم الإنسان فإنك تقرأ فيه من آثار الحكمة والعلم ومن صفات الخالق ما يسعه وعاء عقلك, وما غاب عنك أكثر وأكثر فالجسم غذاؤه واحد، وشرابه واحد، وهواؤه واحد، ولكن هذه المواد تتحول في جسم الإنسان إلى طاقات متنوعة الوظائف، فكيف تتحول هذه المواد إلى طاقة باصرة في العين، وكيف تتحول إلى طاقة سامعة في الأذن، وكيف تتحول إلى طاقة هاضمة في المعدة، وكيف تتم عملية تصنيع الدم بمكوناته المختلفة، وكيف وكيف ..؟! .. ألا يقرأ العقل في هذا كله آثار الصفات الإلهية من الحكمة والعلم والقدرة.
وقد أشار القرآن الكريم إلى خلق الإنسان، وتركيبه وهيئته وتصويره، كما ذكر اختلاف ألوانه، يقول الإمام المراغي: هذا من حججه الدالة على أنه القادر على ما يشاء من إنشاء وإفناء، وإيجاد وإعدام:(إن خلقكم من تراب بتغذيتكم إما بلحوم الحيوان وألبانها وأسمانها، وإما من النّبات والحيوان غذاؤه النبات، والنبات من التراب، فإن النواة لا تصير شجرة إلا بالتراب الذي ينضم إليه أجزاء مائية تجعلها صالحا للتغذية، ثم بعد إخراجكم منه إذا أنتم بشر تنتشرون فى الأرض، تتصرفون فيها فى أغراضكم المختلفة، وأسفاركم البعيدة، تكدحون وتجدّون لتحصيل أرزاقكم من فيض ربكم، وواسع نعمه عليكم، ومن دلائل عظمته سبحانه ووجوده بما ذكره فى خلق الإنسان، أعقبه بذكر الدلائل فى الأكوان المشاهدة، والعوالم المختلفة، وفى اختلاف ألوان البشر ولغاتهم التي لا حصر لها، مع كونهم من أب واحد وأصل واحد، وفيما يشاهد من سباتهم العميق ليلاً، وحركتهم السريعة نهارا، فىالسعى على الأرزاق، والجدّ والكد فيها) (انظر تفسير المراغي 21/ 37)، ويقول ابن عاشور:(وَأَمَّا اخْتِلَافُ أَلْوَانِ الْبَشَرِ فَهُوَ آيَةٌ أَيْضًا لِأَنَّ الْبَشَرَ مُنْحَدِرٌ مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ آدَمُ، وَلَهُ لَوْنٌ وَاحِدٌ لَا مَحَالَةَ، وَلَعَلَّهُ الْبَيَاضُ الْمَشُوبُ بِحُمْرَةٍ، فَلَمَّا تَعَدَّدَ نَسْلُهُ جَاءَتِ الْأَلْوَانُ الْمُخْتَلِفَةُ فِي بَشَرَاتِهِمْ وَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ مَعْلُولٌ لِعِدَّةِ عِلَلٍ أَهَمُّهَا الْمَوَاطِنُ الْمُخْتَلِفَةُ بِالْحَرَارَةِ وَالْبُرُودَةِ، وَمِنْهَا التَّوَالُدُ مِنْ أَبَوَيْنِ مُخْتَلِفَيِ اللَّوْنِ مِثْلَ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ أُمٍّ سَوْدَاءَ وَأَبٍ أَبْيَضَ، وَمِنْهَا الْعِلَلُ وَالْأَمْرَاضُ الَّتِي تُؤَثِّرُ تَلْوِينًا فِي الْجِلْدِ، وَمِنْهَا اخْتِلَافُ الْأَغْذِيَةِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنِ اخْتِلَافُ أَلْوَانِ الْبَشَرِ دَلِيلًا عَلَى اخْتِلَافِ النَّوْعِ بل هُوَ نواع وَاحِدٌ، فَلِلْبَشَرِ أَلْوَانٌ كَثِيرَةٌ أَصْلَاهَا الْبَيَاضُ وَالسَّوَادُ)، وَقَدْ أَشَارَ إِلَى هَذَا أَبُو عَلِيِّ ابْن سِينَا فِي (أُرْجُوزَتِهِ) فِي الطِّبِّ بِقَوْلِهِ:(بِالنَّزْجِ حَرٌّ غَيَّرَ الْأَجْسَادَ * حَتَّى كَسَا بَيَاضَهَا سَوَادَا * وَالصَّقْلَبُ اكْتَسَبَتِ الْبَيَاضَا *حَتَّى غَدَتْ جُلُودُهَا بِضَاضَا) وَكَانَ أَصْلُ اللَّوْنِ الْبَيَاضَ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَى عِلَّةٍ وَلِأَنَّ التَّشْرِيحَ أَثْبَتَ أَنَّ أَلْوَانَ لُحُومِ الْبَشَرِ الَّتِي تَحْتَ الطَّبَقَةِ الْجِلْدِيَّةِ مُتَّحِدَةُ اللَّوْنِ، وَمِنَ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ انْشَقَّتْ أَلْوَانُ قَبَائِلِ الْبَشَرِ فَجَاءَ مِنْهَا اللَّوْنُ الْأَصْفَرُ وَاللَّوْنُ الْأَسْمَرُ وَاللَّوْنُ الْأَحْمَرُ. وَمِنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ كُوقْيَيْ، يقول الشارح:(هوعَالم طبيعي فرنسي ولد سنة 1769 وَتوفى سنة 1832) (جَعَلَ أُصُولَ أَلْوَانِ الْبَشَرِ ثَلَاثَةً: الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَالْأَصْفَرُ، وَهُوَ لَوْنُ أَهْلِ الصِّينِ. وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ الْأَحْمَرَ وَهُوَ لَوْنُ سُكَّانِ قَارَّةِ أَمْيرِكَا الْأَصْلِيِّينَ الْمَدْعُوِّينَ هُنُودَ أَمْيركَا، وَاعْلَمْ أَنَّ مِنْ مَجْمُوعِ اخْتِلَافِ اللُّغَاتِ وَاخْتِلَافِ الْأَلْوَانِ تَمَايَزَتِالْأَجْذَامُ الْبَشَرِيَّةُ وَاتَّحَدَتْ مُخْتَلِطَاتُ أَنْسَابِهَا. وَقَدْ قَسَّمُوا أَجْذَامَ الْبَشَرِ الْآنَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَجْذَامٍ أَصْلِيَّةٍ وَهِيَ الْجَذْمُ الْقُوقَاسِيُّ الْأَبْيَضُ، وَالْجَذْمُ الْمَغُولِيُّ الْأَصْفَرُ، وَالْجَذْمُ الْحَبَشِيُّ الْأَسْوَدُ، وَفَرَّعُوهَا إِلَى ثَمَانِيَةٍ وَهِيَ الْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَالْحَبَشِيُّ وَالْأَحْمَرُ وَالْأَصْفَرُ وَالسَّامِيُّ وَالْهِنْدِيُّ وَالْمَلَايِيُّ ، نِسْبَةً إِلَى بِلَادِ الْمَلَايُو، وَجَعَلَ ذَلِكَ آيَاتٍ فِي قَوْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ لِمَا عُلِمَتْ مِنْ تَفَاصِيلِ دَلَائِلِهِ وَعِلَلِهِ، أَيْ آيَاتٍ لِجَمِيعِ النَّاسِ) (انظرالتحرير والتنوير لابن عاشور21/ 74)، ويقول صاحب كتاب (وظيفة الصورة الفنية في القرآن ـ ص 404):(التنويع في ألوان البشر، وأشكالهم وهيئاتهم وحجومهم، يماثله تنويع أيضاً في النبات بالألوان والأشكال والأحجام، والطعوم، فهذا التنويع في الحركة يضفي على الصورة حيوية وتأثيرا، ويجعلها تمتد إلى داخل النفوس، فتحرّكها لتأمل هذه المشاهد الطبيعية المتحركة، التي تدلّ على قدرة الله في الخلق من أصل واحد مع مراعاة التنويع فيه، كما أنّ (اللون) أيضا يساعد على رسم الصورة، إلى جانب ما ذكرناه، لأن اللون له أثره في النفس الإنسانية فترتاح إليه، أو تنفر منه، يقول تعالى في وصف البقرة:(إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) (البقرة ـ 69)، واختلاف الألوان دليل على قدرة الله، وبديع صنعه، قال تعالى:(وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ) (النحل ـ 13)، وقوله أيضاً:(وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ) (الروم ـ 22)، وتبرز الصورة، وحدة الأصل مع التنويع في الألوان، لإثبات القدرة الإلهية، كما نرى في خلق الإنسان ..أ.هـ، وجاء في موسوعة (الإعجاز العلمي في القرآن والسنة) للنابسلي:(اختلاف ألوان البشر وعلاقته بالميلانين ـ الجلد والشعرـ عُرِفَ علميّاً: أنّ في أدَمَةِ الجِلْدِ خلايا عنكبوتيّةً أيْ: على شكلِ العنكبوتِ، تمْتدُّ على جوانبِها زوائدُ رقيقةٌ، يصِلُ عددُ هذه الخلايا في كلِّ بوصَةٍ مربّعةٍ إلى ستِّينَ ألفَ خليّةٍ) إنه لا اختلافَ في عددِ الخلايا بين أبْيضَ وأسْوَد، فإنّ الخلايا في الإنسانِ الأبْيَضِ والإنسانِ المُلوَّنِ عددٌ ثابتٌ، ولكنَّ اختلافَ التلوينِ نابعٌ مِن كثافةِ المادّةِ الملوّنةِ، وهذه المادّةُ الملوّنةُ اسمُها الميلانين، إنّ بين إنسانٍ ناصع اللّونِ، وإنسانٍ داكنِ اللّونِ فرْقاً في هذه المادّةِ الملوّنةِ لا يزيدُ على غرامٍ واحدٍ، لكنّ الشيءَ الذي يَلفِتُ النَّظَرَ أنّ هذه الخلايا تتناقصُ بِمُعّدلِ عشرٍ إلى عشرينَ في المائةِ كلَّ عشرِ سنواتٍ، لذلك يميلُ جلدُ الإنسانِ مع تقدّمِ العمرِ إلى أنْ يصبِحَ أكثرَ نصاعةً، وأكثرَ بياضاً، ولكنّ هذا لا يَعْنينَا، بل يعنينا ترسّبُ هذه المادّةِ الملوّنةِ في الخلايا العنكبوتيّةِ التي تحتَ أدمةِ الجلدِ، والتي يزيدُ عددُها في البوصةِ المربّعةِ الواحدةِ على ستِّينَ ألف خليةٍ، حيث إنّ نسْبةَ هذه المادّةِ الملوّنةِ تُحَدِّدُها المورّثاتُ في نُويّةِ الخليّةِ، ولكنْ ما العلاقةُ، وما تفسيرُ تلك الألْوانِ الداكنةِ عند الشّعوبِ التي تعيشُ في خطّ الاسْتِواءِ، على أنّ الشّعوبَ التي تعيشُ في قطبِ الكرةِ الشماليِّ أو الجنوبيِّ ألوانُها ناصعةٌ؟ هنا حِكمة الله عزوجل، قيل: إنّ المادّةَ الداكِنَةَ مِن خصائصِها أنّها تمْتصُّ الأشِعّةَ فوقَ البنفْسَجِيّةِ الضارّةَ، ولأنّ أشعّةَ الشمسِ في خطِّ الاستِواءِ عموديّةٌ شديدةٌ كانت الشعوبُ في هذه المنطقةِ ذاتَ ألوانٍ داكنةٍ .. (انظر موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة للنابسلي 1/ 182، بترقيم الشاملة آلياً).
.. وللحديث بقية.

محمود عدلي الشريف
[email protected]