يعي القادة بأن القيادة ليست مرتبطةً بهم وإنما بغيرهم من الناس الذين يسعون إلى تغيير حياتهم إلى الأفضل. القائد الذي يتمتع بالرؤية الثاقبة هو الذي يستشرف المستقبل من حوله ويتخذ خطواتٍ شجاعة لتحويل رؤيته إلى واقعٍ ملموس. هؤلاء القادة الذين يخلِّد التاريخ أسماءهم يظهرون لنا الأثر المتحقق من استغلال الطاقات لتحقيق الأهداف المرسومة.
كوني متخصصة في إدارة التغيير والانتقال وعشت السنوات السابقة في تعلم هذا المجال والحديث عنه واطلعت على العديد من الأمثلة حول إدارة التغيير الفعالة والقيادة فقد وصل إليّ كما وصل لغيري في عمان وفي العالم خبرٌ جعلنا نمرُّ بما يحدثه التغيير من إنكار وألم وارتباك وحيرة. ولكننا شهدنا في الجانب المقابل وشهد العالم معنا كيف عمل قائدنا الملهم صاحب الرؤية الثاقبة على إعداد شعبه للتغيير ووضع الأساس لما نسميه في مجال إدارة التغيير بـ"الانتقال السلس". ولم يقتصر أثر هذا الانتقال على البلاد فحسب , بل على مستوى الأفراد.
حكم المغفور له بإذن الله تعالى جلالة السلطان قابوس بن سعيد طيَّب الله ثراه، منذ نحو نصف قرن من الزمان، كان خلال هذه السنين قائدًا أثَّر على حياة المواطنين والمقيمين والكثيرين حول العالم. حمل السلطان رسالة قائد ارتكزت على مبادئ الرحمة والتفاني وخدمة الآخرين. كان أول خطاب له أمام شعب عمان في يوم توليه مقاليد الحكم في الـ23 من يوليو 1970م ترجمةً حقيقيةً لما يعنيه مبدأ خدمة الآخرين مؤكدًا على أنهم سيكونون الشريك الأساسي في بناء مستقبل بلادهم. "أيها الشعب، سأعمل بأسرع ما يمكن لِجَعْلِكُمْ تعيشون سُّعَدَاءِ لمستقبل أفضل، وعلى كل واحد منكم المساعدة في هذا الواجب.
كان وطننا في الماضي ذا شهرة وقوة وإنٍ عملنا باتحاد وتعاون فسنعيد ماضينا مرة أخرى وسيكون لنا المحل المرموق في العالم".
كان وعيًا من قائدٍ حقيقي بأهمية الاستعداد للتغيير وصنعه؛ إذ تتمثل إحدى أهم مسؤوليات القائد خلال مسيرة التغيير في توصيل رؤيته حول التغيير للآخرين، وفي إطار الاستعداد للتغيير، فقد ألقى جلالة السلطان خطابه أمام الناس قبل المجيء إلى العاصمة مسقط الأمر الذي جعل الشعب مستعدًا نفسيًا لهذا التغيير، أضف إلى ذلك أن هذا الخطاب كان بمثابة إشراكهم حول رؤيته المستقبلية للبلاد.
القادة الحقيقيون يحولون أقوالهم إلى أفعال؛ فبعد بعد تولي جلالته الحكم في 23 يوليو 1970 تم الإعلان عن أول ميزانية حكومية في عام 1971م، وبدأت الخطة الخمسية الأولى في عام 1976. كان الهدف من الخطة الأولى هو إنشاء البنية التحتية للبلاد، تليها خطة التنمية الخمسية الثانية، والتي تهدف إلى استكمال البنية التحتية اللازمة لرفع مستوى معيشة الشعب العماني، وتكوين اقتصاد معاصر كما وعد جلالته الشعب في أول خطاب له. ويعكس ذلك وعي القائد الحقيقي لمفهوم إدارة التغيير، وكيفية الاستعداد له، واتخاذ الخطوات الأولية في تنفيذ التغيير.
وفي مقابلة مع مجلة الفورين أفيرز بعد سبعة وعشرين سنة من توليه الحكم صرح السلطان قابوس بن سعيد قائلًا: "لقد وعدت في اليوم الأول من تولي زمام الحكم بتشكيل حكومة حديثة. لكنني علمت أنه يجب إدخال التغيير ببطء، وببطء شديد حتى يفهم الناس ما نتحدث عنه ". (السلطان قابوس بن سعيد 1997). لقد كان السلطان قابوس على وعيٍ تامٍ بأنه لا يمكن إحداث التغيير بين عشية وضحاها، ولكنه يبدأ بمساعدة الناس على الاستعداد للتغيير عبر القرارات اليومية. ومن أجل مواصلة التغيير والحفاظ عليه، ركزت الخطة الخمسية التاسعة (2016-2020) على خمسة قطاعات واعدة من شأنها أن تسهم في تنويع اقتصاد البلد: الصناعات التحويلية، والخدمات اللوجستية، والثروة السمكية والتعدين. كان السلطان على وعيٍ تامٍ بأنه مع التغيير تأتي التحديات، ولكي يستمر البلد في التقدم والازدهار كان من الضروري أن يجتمع بالمعنيين والمتأثرين بالتغيير للمساهمة في الإعداد والتخطيط، والأهم من ذلك مساعدة بعضهم البعض على مواصلة البناء.
وكما قلت سابقًا بأن القادة على وعيٍ تامٍ بأن القيادة ليست مرتبطةً بهم وإنما بغيرهم من الناس الذين يسعون إلى تغيير حياتهم إلى الأفضل. أصدر السلطان قابوس بن سعيد -رحمه الله - في عام 2013م أوامره السامية لإعداد رؤية عمان 2040، وهي استراتيجية متعلقة بالسياق الاجتماعي والاقتصادي للبلاد، لتكون مرجعًا للتخطيط للمستقبل بناءً على المتطلبات الوطنية والتغيرات الإقليمية والعالمية. حيث قال جلالة السلطان قابوس معلقًا على هذه الرؤية: "يجب أن تستوعب الرؤية الواقع الاقتصادي والاجتماعي وتتطلع بموضوعية إلى المستقبل، لكي تكون مرجعًا رئيسيًا للتخطيط خلال العقدين المقبلين". (22 ديسمبر 2013). تمت صياغة الرؤية المستقبلية بإشراك الأفراد والشركات والمعنيين الذين يمثلون المجتمع العماني بجميع أطيافه. كان إعداد هذه الرؤية بإشرافٍ مباشر من سلطاننا الحالي حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم - حفظه الله ورعاه - الذي كان قبل ذلك وزير التراث والثقافة، وتولى منصب وكيل وزارة الخارجية، وعمل خلال السنوات المنصرمة على الحفاظ على مستقبل عمان من خلال التمسك بثقافة البلد وتراثه، وتعزيز علاقته بالعالم الخارجي. إن القادة الذين يتمتعون برؤيةٍ ثاقبةٍ لا يكتفون بالاستعداد للتغيير فحسب بل يمهدون الطريق لعملية انتقال سلسلة تُيسر الأمر على من سيخلفهم.
وعند الحديث عن رؤية جلالة السلطان قابوس بن سعيد ـ طيب الله ثراه ـ فقد كان قائدًا عالميًا أولى اهتمامًا كبيرًا برفاهية شعبه وتنمية بلده وعلاقته بالعالم. وعبر عن هذا الأمر بشكلٍ جلي في خطابه عام 2007 حيث قال: "نحن نعمل من أجل البناء والتنمية في الداخل، ومن أجل الصداقة، والسلام، والعدالة، والوئام، والتعايش، والتفاهم، والحوار البناء الإيجابي في الخارج. هكذا بدأنا، وهكذا نحن اليوم، وبإذن الله، هكذا سنستمر".
والدنا الحبيب جلالة السلطان قابوس بن سعيد بن تيمور طيب الله ثراك وأسكنك فسيح جناته، نؤكد لك أن شعبك سوف يواصل مسيرتك في ظل القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق بن تيمور المعظم ـ حفظه الله ورعاه. وختامًا أعبر عن فخري لحديثي عن سنوات لا تنسى مع قائدٍ حقيقي خلَّد التاريخ اسمه. شكرا لك على كل ما فعلته من أجل الإنسانية.

ندى حسين الموسى