صور كالصاعقة تنزل عليك أيها المتلقي وأنت لا حول لك ولا قوة إلا إنك مركز لاستقبالها. أحد أهم الخبطات الاعلامية والصيحات الحديثة هي إنك ترسل ما تجده مؤثرا وجذابا خدمة لرسائل الجهة المنتجه دون أن يكون هناك مراعاة لأخلاق المهنة، ودون أن يكون الوازع الانساني أو الديني من تمثيل بالجثث وتغطية تفحمها وأعداد المصابين واحترام خصوصيتهم مقياس ناتج على وجود فجوة كبيرة في احترام حقوق الانسان واحترام أخلاقيات المهنة والذي لا يتعارض مع مبدأ الشفافية ونقل الحقيقة. على سبيل المثال كان للإعلام دورا مهما في فضح الممارسات الاسرائيلية العنصرية وجرائمها ضد الإنسانية ولكن لا بد من التنويه ولفت انتباه المشاهد وتهيئته بدلا من عرض الصوره أمامه بدون سابق إنذار. في السابق قامت بعض وسائل الاعلام التي جارت السبق الاعلامي بوضع " تنويه" وتهيئة للمشاهد بأنه ستعرض صوراً ومشاهد مؤثرة وقد تكون صادمة ومؤلمة للمشاهد، ولكن للأسف الإعلام الآن وفي هذه الفترة يصدمك بمشاهد قاسية دون أي تنويه أو إخطار للمشاهد، بعض المتابعين لمجريات الأحداث المحلية والعالمية المستجدة في الساحة يكونون حريصين كل الحرص على متابعة نشرات الأخبار يوميا، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أنهم مهيئون نفسيا لمشاهدة مشاهد القتل والدمار والجثث المتفحمة والدماء البشرية التي تسيل وكأن لا حرمة لها. كثيرا ما سمعت من أقرباء وأصدقاء أنهم قد يصبحون، أو اصبحوا بالفعل، فريسة للاكتئاب والقلق والتشاؤم بسبب مشاهداتهم اليومية لنشرات الأخبار، وكم من أم سقطت مغشيا عليها وانفطر قلبها لمشاهدة صور مؤلمة لأطفال أبرياء وصورا تظهر وجوههم الملائكية وأجسادهم الطاهرة مضرجة بالدماء. كما أن الأطفال بمختلف مستوياتهم العمرية أصبحوا أيضا ضحايا لمثل هذه المشاهدات والصور المؤلمة، وأستشهد هنا بما قاله لي ابني الصغير الذي يبلغ الخامسة من العمر: " بابا أنا خائف. لا أريد الذهاب لسوريا. هل سوريا قريبة منا؟ والسبب أنه تابع معي، ودون أن أستشعر بوجوده، نشرة اخبارية تتحدث عن الأوضاع المأساوية في سوريا، وظل تأثير هذه المشاهد على نفسيته لفترة طويلة، فبعد أشهر سمع صوت ألعاب ناريه وبدلا من أن تبهجه بكى وسألني ببراءة " بابا سوريا هنا؟
وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي وبرامج الهواتف الذكية تنشر صورا لقتلى وجثث وحوادث مريعة دون مراعاة أن لهؤلاء القتلى أقارب وأصدقاء ومحبين، وكيف سيكون وقع هذه الصور عليهم، بحيث تُنقل بعض هذه الحوادث ويتم تداولها خلال ثواني وتصل هذه الصور لذوي القتلى فتنزل عليهم كالصاعقة، في حين أنه يفترض أن تصلهم هذه الحوادث من خلال القنوات الاجتماعية التي تراعي نفسياتهم وتتفهمها.
وهنا استشهد بنموذجين الأول خليجيا من السلطنة وهو ما تم تداوله من غرق شباب في أحد السدود وكانت الصور الأولى لعملية الانقاذ التي كانت تقوم بها قوات الدفاع المدني بحيث الحاله الصحية لهؤلاء الشباب لم يقررها الطب الشرعي بعد ولم يتم تعريف ذويهم بحالتهم وقامت وسائل التواصل بتوزيع الصور بوضوح وإعلان الوفاه وهي غير مؤكده فعليا وما تبعها من ذكر أسماء وتقديرات عن مناطقهم وغيرها من التفاصيل، وإقليميا بالمشاهد التي بثتها بعض القنوات الفضائية وتُظهر صورا لأشخاص سحلوا وتم التمثيل بجثثهم بحجة أنهم يختلفون مع الآخر ايديولوجيا أو سياسياً! والسؤال هنا هل راعت وسائل الاتصال هذه الخصوصية وحرمة هؤلاء الأموات؟ فحقوقهم وحرماتهم وكرامتهم الانسانية لا تنتهي بمجرد مفارقتهم للحياة. المسرح اليوناني - والذي ترعرع في مجتمع وثني، والذي يعود تاريخه إلى القرن الخامس قبل الميلاد - كان حريصا على نفسية المشاهد ووقع المشاهد "المسرحية" عليها بحيث تُمثل مشاهد القتل والإعدام في الكواليس وليس أمام المشاهد مباشرة، فما بالنا بوقع أحداث "واقعية" يندى لها جبين الانسانية على نفسية المشاهد الذي لا ذنب له سوى حرصه على متابعة وسائل الاعلام هذه!
هذه الظاهرة أو الصيحة الاعلامية قد يكون مردها إلى مسألة التنافس بين وسائل الاتصال المختلفة على السبق الصحفي أو الكسب المادي السريع أو ربما الجهل بأخلاقيات العمل الاعلامي وحقوق الانسان عموما. الله تعالى أرحم الراحمين خلق الإنسان بفطرة سوية تجنح للسلام وتنفر من العنف ومشاهد الدماء، فاتقوا الله في المشاهدين من ذوي النفوس المرهفة والرحيمة أيها القائمين على وسائل الاتصال والفضائيات. وللخروج من هذه الظاهرة لابد محليا من التصدي لها بزيادة الوعي الجماهيري، والتنبيه على خطورة هذه الظاهرة اجتماعيا وإعلاميا، وزيادة الجرعات الاعلانية حولها، وعلى الجهات المعنية بالتنظيم الاعلامي ووسائل الاتصال أن تلعب دور أكبر عما هو عليه حاليا. وإقليميا ينبع وجود المجالس الاعلامية ولقاءات الوزراء والمسئولين عن الاتصال والإعلام الخليجي والعربي من ضرورة التنبيه على احترام اخلاقيات المهنه الإعلاميه لان فاتورتها على الانسان العربي كبيرة أكبر من الفاتورة المالية لمكاسب بعض القنوات الفضائية.

د. سعيد محمد السيابي