جمال النوفلي:يعرف سقراط الفنان بأنه هو ذاك الشخص الذي حرر نفسه من شوائب المادة الحسية وانطلق إلى المثل العليا، ومن هذه الأرضية أي أرضية التعبير السقراطي عن الابداع الفني يمكننا أن نقدر القيمة الابداعية في كل عمل فني يقوم به فنان ما سواء في الموسيقى أو الشعر أو الرسم أو غيره، إن الانعتاق عن ذوات المادة والتمظهر في تجليات متجردة من عوالق المحسوسات صعودا إلى القيم السامية والمثل العليا يمكن أن يكون مسبار الناقد والمتذوق للوصول إلى كنه الفن على حد تعبير سقراط، لا سيما إن ربطنا فهمه للفن بتساؤلاته الفلسفية عن الوجود ومآله، الذي يرى فيه بأن لكل مادة غاية تسعى إليها وهي ما يحفزها ويحركها ويبث فيها الطاقة وإن كل ما علينا فعله هو أن نوجهها إن لم تتوجه من تلقاء نفسها إلى المثل العليا السامية.كانت هذه مقدمة لا بد منها لشرح لوحة كانت قد استوقفتني ذات مساء أثناء تجولي في أروقة النادي الثقافي للتشكيلية سناء الحميدية، المؤسسة العريقة التي تحبنا ونحبها، حيث كان حائط الطابق العلوي يحتضنها بحب وهي متمسكة بزوايا طولها وعرضها البالغة ١٠٠ في ١٥٠، تزهو بألوانها الطافحة بالروعة والافتنان لتلقي في نفس المشاهد انطباعا بأنها قد بلغت ما يمكن بلوغه من الجمال الحسي وما يمكن للفؤاد استيعابه من الحسن البصري.لا تنتمي هذه اللوحة إلى أي مدرسة يمكن تصنيفها إليه، هكذا اعتقدت في بداية الأمر فهي بين السريالية والتجريدية، فلوهلة حينما رمقتها عيني وأنا أصعد في السلالم وحينما شدتني من تلابيبي لأقف أمامها كالمشدوه، لوهلة راح اعتقادي فيها إلى كونها نوعا من الفن التجريدي الذي يقدم فيه الفنان عمله صرفا من كل موجود من المحسوسات ومتجردا من كل الأشكال المشاهدة ليخرج بلوحة مكونة من خطوط وألوان متداخلة على أشكال هندسية معروفة كالمربعات والدوائر والمثلثات، يعبر من خلالها عن مكنون تجاربه الفنية والنفسية، أي أنه يعبر في لوحته عن مشاعر حقيقية في دواخله، مشاعر لا يمكنه إخراجها إلى الواقع المحسوس بالكلمة فليس هناك من الكلمات ما يمكن أن يستوفي حقيقتها كاملة، كما لا يمكن أيضا التعبير عنها بالرسم الكلاسيكي لأن الفن الكلاسيكي يعبر عن مثاليات لأشياء محسوسة وموجودة، فلا يجد الفنان مخرجا إلا أن يخلقها خلقا جديدا بفرشاته وتخيلاته الذاتية…لقد خيل إلي أنها تجريدية حين رأيتها مقسمة إلى ثلاثة مستطيلات متماسكة تمثل طبقات من الألوان الهادئة المريحة، ثم تنفجر من وسطها كرة يبدو وكأنها ابتدأت صغيرة جدا ثم بدأت في الاتساع والظهور، فالمتأمل للوحة لا يمكنه أن يغفل عن ملاحظة أن فيها أشياء متحركة غير ثابتة مكانها ويستطيع أن يتحسس حياة غريبة تدب فيها، هذه الخلفية من الألوان التي تذهب تصاعديا نحو الأعلى ابتداء من اللون البنفسجي ثم اللون الأحمر الداكن الممتلئ بالدوائر الصغيرة ثم اللون البرتقالي الذي يتماهى في اصفرار قان كلما تصاعد نحو العلو، واختفاء للكرات الصغيرة التي تتضاءل أحجامها وألوانها كلما اعلوت، وكأن سبب اختفائها هو بلوغها غايتها الوجودية الذي جلعت من أجلها، تماما كالفقاعات الصابونية في فصل الربع التي لا تنفك تسبح مع النسمة الهائمة حتى تعلو إلى طبقات علوية لتنفجر باعتناق أزلي بغاز السماء.ثم تلاحظ أن تلك الحلقة الدائرية الكبيرة في الوسط ليست شكلا دائريا في الحقيقة، فهي ليست كباقي الدوائر الصغيرة الأخرى المحيطة بها، وإنما هي أقرب للشكل البيضاوي المفتوح أعلاه، هل أرادت الفنانة أن تجعل من هذه الدائرة البيضاوية شكلا معبرا عن وعاء قديم طيني، الجحلة مثلا (الجرة)؟، ثم إذا كانت جحلة فماذا عن تفسيرنا التجريدي عن المستطيلات والدوائر الصغيرة المتصاعدة؟ هل يمكن أن يكون كل ذلك هو مجرد جحلة عتيقة مستلقية على قطعة كبيرة من القماش الهندي، نعم إن الألوان توحي إلى ذلك بشكل واضح، فهي ذات الألوان التي نشاهدها على الثياب التقليدية للنساء العمانيات نفس النقوش والتفاصيل، لكن عن ماذا تريد أن تعبر هذه الفنانة من خلال هذه اللوحة؟ ما هي المشاعر التي ينبغي أن تكتنفنا من خلال هذه اللوحة حين نمعن النظر فيها؟ ماذا تعني الجحلة بالنسبة لنا؟ هل تعني الاحتواء، الأمان، الحفظ؟، ويمكنها أيضا أن تعني الصفاء والنقاء لأنها عادة ما تحمل الماء النقي، والثراء أيضا لأن الماء كان بالنسبة للعمانيين ثروة فهم يحفظونه في جحال خاصة تحفظه باردا في الصيف والشتاء، كما يحفظون فيه الأغذية الثمينة الأخرى كالعسل والنبيذ والسمن. لكن ماذا يمكن أن يكون داخل هذه الجحلة؟ إن فوهتها تبدو ثائرة مفتوحة كالبركان، وكأن حمما غاضبة تخرج منها، لتعطي المتأمل انطباعا بأن هناك طاقة كامنة من هذه الفوهة، تخرج من باطن الوعاء الفخاري (الجحلة) تخرج قاتمة غاضبة لتملأ ما حولها بالظلام والحزن والأسى، ثم يتهيأ لي بعد أن ألقي فيها نظرة أخرى فاحصة أن ما في داخلها هو رأس جنين في جسد لم يكتمل نموه!!، وحين تتأمل الرأس تجده يشيح بوجهه عنا إلى الداخل، وكأنه يتأمل شيئا ما في داخل اللوحة أو كأنه حاقد علينا، غاضب، من أشياء لا نعلمها، طفل في بطن أمه يشيح بوجهه عن الحياة الخارجية وعن كل الغرباء المتأملين فيه وكل المتطفلين عليه في خلوته، إنه يائس من الحياة التي لم يرها بعد والتي تحمل أشخاصا متبلدي المشاعر إلى الحد الذي يمكن أن يقفوا أمامه دون أن يلحظوه.