كتب ـ علي بن صالح السليمي والعمانية:
رفع المشاركون في أعمال مؤتمر "فقه الماء ـ أحكامه الشرعية وآفاقه الحضارية وقضاياه المعاصرة"، والذي اختتم أعماله بمسقط أمس، برقية شكر وعرفان إلى المقام السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه.
عبروا فيها عن أخلص الشكر والتقدير لمقام جلالته السامي على الاهتمام والرعاية السامية من لدن جلالته ـ أعزه الله ـ في حفظ الدين ونشر العلم، والتي مدت سائر الباحثين والمعلقين والمتداخلين في المؤتمر للمشاركة في ازدهار الحاضر ووضع المستقبل المشترك للعرب والمسلمين، انطلاقًا من السلطنة، موطن النهوض والعلم
والعلماء.
سائلين الله سبحانه وتعالى لجلالته أخلص أماني وآمال التوفيق والعزة، وللسلطنة والشعب العماني دوام الاستقرار والنمو والازدهار.
وخرجت ندوة تطور العلوم الفقهية : فقه الماء وأحكامه الشرعية وآفاقه الحضارية وقضاياه المعاصرة في ختام أعمال نسختها الخامسة عشرة بـ22 توصية منها : الدعوة إلى إحياء الوظيفة الإنسانية السامية التي نبه إليها الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: (الناس شركاء في ثلاث: الماء والكلأ والنار)، فالمياه يجب أن تكون سببًا للتعاون الإنساني ودفعًا إلى إقامة جسور المودة والتراحم الإنساني.
كما أوصت الندوة بضرورة استثمار التراث الفقهي في صياغة الفتاوى المعاصرة التي يتحقق من خلالها تكوين وعي المجتمع بمسؤوليته الدينية في المحافظة على نعمة المياه، وتحسين الكفاءة المجتمعية في استعمال المياه، والحدّ من استنزاف الموارد المائية، والتصدي لظاهرة تلويث المياه، وتحقيق العدالة الاجتماعية في التوزيع الأمثل للمياه، وضمان حقوق الأفراد والمجتمعات فيها.
ودعت إلى تضافر الجهود بين العلماء والجهات المختصة وذوي الخبرة لإعمال العقل
الاجتهادي لاستنباط الأحكام الشرعية التي تضمن ديمومة هذه الثروة وبقاءها والمحافظة عليها من التلوث، واستنباط ضوابط شرعية وقانونية تحفز الشراكة بين المواطن والقائمين على حفظها باعتبارها ثروة وطنية.
وأوصت الندوة بضرورة السعي إلى تطوير التشريع القانوني لعقود الإيجار والانتفاع التي يكون موضوعها الشراكة في العمل بالأبدان والأذهان، مثل المساقاة والمزارعة والمغارسة وغيرها بين الأفراد والمؤسسات الحكومية والشركات والأوقاف، بما يتناسب مع الأوضاع الاقتصادية والزراعية للمجتمعات ويلبي متطلبات الأفراد والمؤسسات ماليا ومعيشيا، ومثاله الحي: مشروع زراعة مليون نخلة الذي جاء بمباركة سامية من حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه.
وأشارت التوصيات إلى أن الأحكام المتعلقة بالمياه في الفقه الإسلامي كثيرة ومتفرقة في كتب التراث وتمثل ثروة فقهية يتطلب جمعها وترتيبها من خلال مشروع موسوعي يكون نواة لإعمال العقل الاجتهادي للحفاظ على هذه الثروة المهمة، والتصدي للقضايا والمشاكل المائية الكبرى التي تواجه المجتمعات الإنسانية اليوم.
وأكدت أن الماء نعمة إلهية وهبة ربانية، قال تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون) وشكرها بالمحافظة عليها وعدم إهدارها، وصون مصادرها ووسائلها، وحمايتها من كل ما من شأنه الإضرار بها، والإبقاء ما أمكن على إباحتها، باعتبارها شركة إنسانية.
وأكدت توصيات الندوة ضرورة الحفاظ على إرْث الأفلاج الحضاري والعناية به ماديا ومعنويا، وتوعية الأجيال بمنهج الأوائل في تقسيم مياهها وقياساتها وطرق بنائها وشق قنواتها وسبل ديمومتها، والثقافة القانونية حولها، وغرس ذلك كله في المقررات الدراسية حتى يرتبط الجيل الصاعد بدينه، وتتوثق عراه بأرضه وتراثه الحضاري في مجال المياه.
ورأت التوصيات ضرورة إحياء محاكم المياه المعمول بها في سابق الأزمان من خلال استحداث مواد قانونية، وإضفاء صفة رفع الدعوى لمنظمات المجتمع المدني حال التعدي على المصادر المائية، وتخصيص أقسام بالمحاكم لدعاوى المياه وطرق فض المنازعات في هذا المجال إلى غير ذلك.
ودعت توصيات الندوة إلى أهميّة متابعة النتائج العلمية لهذه الندوة المباركة في المعاهد والجامعات العلمية الإسلامية، وتوسيع نطاق الدراسات المتعلقة بالمياه في إطار ثلاثة فروع أساسية، وهي: إشكاليات الماء وأخلاقيات الماء وفقه الماء.
وأكدت التوصيات أهمية دراسة القضايا المائية المعاصرة المتعلقة بتوزيع حصص الدول من الأنهار، والحفاظ على مياه البحار، ومعالجة مياه الصرف الصحي، ودور الشركات الصناعية في التقليل من الآثار السلبية لغازات المصانع، والمحافظة على المخزون المائي، وقضايا الاستمطار الصناعي، وغيرها من قضايا العصر التي تثار في المجتمع الإنساني اليوم.
كما صدرت عن الندوة وثيقة حول (فقه الماء) ،جاء في نصها ما يلي (" هذه الوثيقة
انبثقت من توجيهات ومباركة حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم ـ حفظه الله ورعاه ـ لندوة تطور العلوم الفقهية: فقه الماء وأحكامه الشرعية، وهي من نوع خاص، تتجلى فيها علاقة الشريعة بالحياة، وتُقرأ فيها الأحكام الفقهية قراءة تاريخية، وتقرأ فيها النصوص قراءة حضارية اجتماعية، ترسم خريطة متكاملة، وتتفاعل فيها علاقة الطبيعة بالإنسان، والدين بالعمران، والنظر بالعمل في سياق جدلية حاكمة لحضارة نابعة من دين، تربط نصوصه بين الماء والإنسان من عالم الشهادة إلى عالم الغيب.
يقول تعالى في سورة الفرقان:" وأنزلنا من السماء ماء طهورا، لنحيي به بلدة ميتا ونسقيه مما خلقنا أنعاما وأناسي كثيرا" الآيتان 48-49.
ويقول تعالى في سورة الأنبياء:" وجعلنا من الماء كل شيء حي" الآية 30
ويقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: "المسلمون شركاء في ثلاث: في الماء والكلأ والنار".
والقارئ المتأمل في القرآن، وفي أحكامه وتفاسيره على تنوعها، وفي تراثنا الفقهي
بنوازله ووثائقه يجد إجابات على أسئلة ما يزال الإنسان المعاصر حائرًا أمام فك رموزها، والاستفادة من فهم كنوزها.
وتنطلق ندوة العلوم الفقهية خلال سلسلتها الخامسة عشرة من مسألة أولية وجوهرية، تستوعب العلائق بين الماء والإنسان أحكاما وآفاقا وقضايا وهي: (لا حياة بغير ماء)، كما ذكرت الآية الكريمة.
وتأتي هذه الندوة في موعدها زمانًا ومكانًا:
أما الزمان فهو حياتنا المعاصرة التي تنبئُ بصراع حول الماء، لم تعد مخاطره خافية على أحد، إننا على مشارف عصر حروب الماء إذا لم نكن قد دخلناها بالفعل، وأما المكان فهو سلطنة عمان، حيث علاقتها بالماء متجذرة في أفلاجها وبراعة هندستها ودقة أحكامها، فمنه ارتوت حضارتها عبر التاريخ، وامتدت علاقاتها مع الشعوب والأمم الأخرى فيما وراء البحار.
آفاق الوثيقة:
لقد رسمت المقدمة معالم العلاقة بين فقه الماء وحياة الإنسان، فهي علاقة ضرورية
وعلاقة وجود.
إن الحياة الإنسانية ـ وقد أصبح واضحًا ارتباطها الوجودي "بالماء" الذي لا حياة بدونه، ولا وجود بغيره، بل ولا سلام بدون توافق على قواعد التعامل معه– لا تستقيم إلا من خلال المبادئ والموضوعات الآتية التي يوصي العلماء وأهل الاختصاص بتبنيها ودراستها دراسة متعمقة ومقارنة :-
أولا: إن الماء نعمة ربانية وضرورة حياتية، فلا ينبغي النظر إليه باعتباره ملكية مشتركة فحسب، بل إنه حق من حقوق الإنسان، لذلك أكدت المواثيق الدولية المعاصرة على الحق في الماء.
ثانيا: إن الصراع حول الماء هو صراع وجود وبقاء، فعلى الدول إصدار مدونة تشريعية عالمية، تضع الضوابط والأحكام الملزمة لحل مشكلات أي صراع مائي بما يتفق مع الشرع الشريف.
ويحكم البحار حاليًا اتفاقية الأمم المتحدة لسنة 1982م لقانون البحار، ويتحدث الجزء الثاني عشر منها عن حماية البيئة والحفاظ عليها، كذلك تتحدث الاتفاقية عن أهم استخدامات البحار، خصوصا في الملاحة، واستخراج ثرواتها الطبيعية واستغلالها، وقد حلت هذه الاتفاقية محل اتفاقات جنيف الأربعة لعام 1985م الخاصة بالبحار.
ثالثا: تفعيل معاهدات منع الاعتداء حول مصادر المياه، وتجريم تلويثها محليًا وإقليميًا
وعالميًا.
رابعا: الاستفادة من التجربة الإسلامية في التعامل مع قضايا الماء ملكية ومعاوضة ووقفا واحتكارا، وذلك بالرجوع إلى قواعد كتب الفقه والنوازل المتصلة بقضايا الماء.
خامسا: العمل على إصدار تشريعات وطنية، تجرم الاعتداء على الماء بأية صورة من
الصور.
سادسا: وضع ضوابط تشريعية للمقاسمة في المياه، تقوم على مبادئ عادلة في توزيع الأنصبة والأعباء على حد سواء.
سابعا: توجيه المؤسسات الإعلامية، ومراكز صنع الرأي العام على إيجاد ثقافة إيجابية في التعامل مع الماء الذي قد تزيد قطراته في الأهمية على قطرات الدماء.
ثامنا: توجيه المؤسسات التعليمية للعمل على تكوين بنية ثقافية تحمي الماء في مختلف مراحلها، وتعدّه القضية الأساسية في بقاء الحضارة الإنسانية، وربما كان مهما أن تفكر الجامعات العربية والإسلامية في اعتماد الفقه الحضاري للمياه مقررًا دراسيًا.
تاسعا: تعميم ثقافة ترشيد المياه على كل إنسان سواء في إقامة عباداته، أو الالتزام
بعاداته، أو محاولته التي لا تتوقف من أجل الاستفادة من المياه في مجالات الزراعة والري وفقه البيئة والنظافة والطهارة، وما تقتضيه الحياة المنزلية والدينية، ومجالات
الرياضة المائية بكل صورها، وكذلك الفنون المائية بكل أشكالها.
ويمكن ـ في هذا الصدد ـ الاستعانة بالإعلام في هذا الترشيد عن طريق البرامج الجاذبة، والكتيبات المؤثرة التي تستلهم من تاريخ المياه ما يدعم رسالتها.
عاشرا: إن فقه الماء باعتباره فقه الحياة يقتضي إقامة دورات وبرامج للوعاظ والمرشدين والدعاة والعاملين في مجال الفتوى والإعلام للعمل على تعميم هذه الثقافة ونشرها.
حادي عشر: إنشاء أقسام في كليات الهندسة والعلوم والآداب والحقوق والأكاديميات
البحرية لدراسة قضايا الماء، فكليات الهندسة تعمل على تطوير آلات الاستفادة من المياه، وطرق مقاسمة المياه، ودور المياه في نشأة المدن و إعمارها.
وكليات العلوم تدرس الأحياء المائية وما يتصل بها من معارف وعلوم بحرية أما كليات الآداب فتدرس تاريخ المياه وما دار حوله من حروب وصراعات ومعاهدات، عبر العلاقات بين الشرق والغرب.
وأما الأكاديميات البحرية، فمن خلال مناهجها التي تستوعب علوم البحار وقواعد تسيير السفن وآداب السفر عبر البحار، والفنون البحرية.
وأما كليات الحقوق، فتقدم دراسة موضوعية حول قوانين الماء وتشريعاته، والمعاهدات والوثائق الدولية المتعلقة بها، خصوصا القواعد القانونية المتعلقة بقضايا البحار في الحرب والسلام، إضافة إلى مقرراتها المعتادة في المعاملات التجارية والنقل البحري.
إن مما يتطلبه تفعيل هذه الوثيقة ما يلي:
1- تخصيص مجال في الجامعات والمراكز والمعاهد المعنية لأبحاث قضايا الماء
لاستيعاب الأحكام الفقهية والنواحي الاجتماعية والاقتصادية المتعلقة بالمياه وآثارها
الدولية.
2- الدعوة إلى معاهدة دولية عادلة تشمل جميع دول العالم حول القضايا المعاصرة عن الماء، تحوي آليات لحل النزاع، ووضع خطط التنمية ورسم خرائط التعاون بين العالمين العربي والإسلامي، وتبادل المعلومات والخبرات المتعلقة بها.
وفي ختامها أكدت الوثيقة على أنَّ حلّ مشكلات المياه وصراعاته مبدأ ديني، وهي أهم مقومات السلام العالمي والإقليمي في الوقت المعاصر")