[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/aliaklahersan.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]علي عقلة عرسان[/author]
كلما اشتد صراع بين حاملي وجهتي نظر متعارضتين: "أخلاقية مثالية وواقعية عملية، أو مبدئية وبراجماتية"، أو بين قوتين متعارضتين "سلطوية ومعارضة لها" تتطلع إلى السلطة في وطن، أو بين فئتين متضادتين في الاعتقاد والاجتهاد.. تملك كلٌّ منها رؤية وحقا ومنطقا تريد أن تعليه وتمليه على الأخرى، سواء بالحُجَّة والمنطق أو بالعسف والغوغائية والقوة.. كما كان الصراع بين سلطتين دينية ودنيوية، أو بين سلطتين دنيوتين سياسيتين متعارضتين، أصبح شرسا، ويصبح الأمر أشد وطأة وتأثيرا وتعقيدا، ويبلغ مبلغ المأساة أو الكارثة التي تحل بوطن وشعب، لا سيما عند الاستهانة بالحق والمنطق والقانون، واستباحة كل من الكتل المتصارعة الوسائل والأدوات والسُّبُل لفرض منطقها وإرادتها وذاتها على الأخرى بالقهر، مهما كانت النتائج..
حين أقف أمام هذا، وكثيرا ما أقف أمامه في هذا الزمن المأساوي، أستعيد ما يسفر عنه منطق القوة من مصائب وربما من كوارث عندما يتحكم بالعقول والإرادات ويحكمها ويفرض نفسه على الناس.. وتتماثل لي حكاية الفتاة اليونانية أنتيجون ابنة أوديب الملك مع خالها الحاكم كريون في أثينا، بعد أن مات أبوها وتنازع أخواها على السلطة في ظل ولاية الخال الوصي كريون.. وأستعيد ذلك النوع من الصراع بين الحق والواجب، وأستعيد النَّفَس التراجيدي في تلك "القصة القضية، أو القضية القصة"، الممتد من إسخيلوس وسوفوكليس عبر زمن الإبداع والاتباع، إلى كثرة كاثرة ممَّن تناول هذا الموضوع من الشعراء والأدباء في فضاء المسرح الرحب.. معتمدا كل منهم مجريات تلك الأحداث، مضيفا إلى ما كان من حجج ومنطق وإبداع، ما بوسعه أن يضيفه من أفكار ورؤى ووجهات نظر وحُجج ومنطق، يحاول بذلك أن يضاهي منطقا سابقا أو يغالبه.. فيغنَى المنطق والإبداع بذلك.. لكن لا يتوقف الصراع ولا تكف المآسي والكوارث عن التجدد، وهيهات.. هيهات أن يتعظ من ينبغي أن يتعظ بما كان وبما يقرأ ويسمع ويرى.. ولله في خلقه شؤون.
"القصة القضية" في مسرحية "أنتيجون أو أنتيجونا" معروفة.. فقد اختصم ولدا أوديب بولينيس وإيتيوكليس بعد وفاته على مَن منهما يتولى الحكم، ولم تنجح مساعي الموفّقين بينهما في الوصول إلى حل، وخاب سعي كريون خالهما في الوساطة بينهما أيضا، في حين كان يتولى أمر الدولة ريثما يبلغا السن المحددة لتولي السلطة.. وعندما وصلت خلافاتهما إلى حد كبير، غادر الابن الأكبر بولينس أثينا وبقي إتيوكليس فيها، وقد تولى الحكم أو شارف على أن يفعل ذلك.. فجمع بولينس جيوشا من سبع مقاطعات تحيط بأثينا وهاجم المدينة.. وحوْل أسوارها قتلَ كلٌّ من الأخوين بولينس وإتيوكليس الآخر بطعنتين متبادلتين أتيتا في وقت واحد، وتولى الحكم بعدهما بصورة تامة خالُهما كريون.
ولكي يرضي كريون الناس، ويعاقب الشرير، وينصَّب أمام الأثينيين بطلا وطنيا قويا تعتز به أثينا، وشريرا تحتقره.. اعتبر بولينس الذي هاجم المدينة شريرا واحتقره وألقى جثته للنسور الجارحة دون دفن أو صلاة.
وعزَّ هذا الأمر على أنتيجون ابنة أوديب وأخت بولينس، وقررت وهي الأنثى الرقيقة أن تقوم بدفن أخيها لكي تسكن روحه وتعود إلى هاديس عالم الموتى، كما كان يعتقد اليونان القدماء. لكن هل تَخرُج أنتيجون على الحاكم كريون وتتحدى أوامره وتعليماته التي أصدرها للناس وتصبح بطلة؟!... لقد أنذر كريون كل من يحاول أن يدفن بولينس بالإعدام، ووضع حراسا حول الجثة، وقرر أن يبقيها في العراء شهرا لينصاع الناس لأمره ويحترموا القانون ويهابوا سلطة الحاكم.. لكن أنتيجون ليست ممن يهابون الموت والحاكم وسلطته... فقد خُلِقت لتموت ولتواجه مصيرها بجرأة وشجاعة... وهكذا قررت الصبية الرقيقة السمراء أن تدفن أخاها، متحدية قوانين الدولة وسلطة خالها، وقدَّرت مسبقا أن النتائج قد تكون وخيمة، وإنها ربما أُعدمت ولم يتح لها أن تصبح ربة بيت، ولا أن تتزوج خطيبها هيمون ابن كريون.. فكَّرت بصباها الغض، وبثياب العرس وزينة الفتاة، ولكن كل أحلام السعادة وحياة الدعة كانت تنهار أمامها حينما تتصور أن جثة أخيها بولينس لا تزال في العراء نهبا لجوارح الطيور، وأن روحه تهيم متألمة مشردة لا تستطيع أن تستقر.
عرضت أنتيجون على أختها "اسمين" أن تذهب معها لتدفنا أخاهما بولينس ولتقوما معا بالواجب نحو الميت، لكن اسمين جَبُنَت، فقررت أنتيجون أن تقوم وحدها بالمهمة، ولذا ودَّعت حبيبَها وخطيبها هيمون وداعا غامضا أحس بغرابته ولم يفهم ما ينطوي عليه من أمور، وتسللت من فراشها قبيل الفجر، وغافلت الحراس، وأهالت على جثة بولينس التراب، وعادت متعبة غير هيابة ولا وجلة.. عادت والتصميم ينفر من عينيها.. وعندما استقبلتها مربيتُها باللوم لأنها غادرت الفراش واتهمتها باتهامات شتى، لم تكن تملك إلا ابتسامة ساخرة واثقة فقد كانت ثورة الحق على الباطل.
ويأتي أحد حراس الجثة ليخبر كريون بما حدث فيعتقد كريون أن المناوئين لسياسته هم الذين قاموا بهذا العمل وأنهم تحدوه وتحدوا سلطته، فيثور ويأمر الحرس بتعرية الجثة وبمزيد من اليقظة وبكتمان الأمر لكي يتم القبض على الفاعل.
وتعود أنتيجون في رابعة النهار هذه المرة لتدفن أخاها مرة أخرى بعد أن عراه الحراس، وعندها يقبضون عليها ويأتون بها أسيرة إلى الملك كريون الذي يفاجأ بالفاعل... إنها ابنة أخته وخطيبة ابنه، إنها الفتاة الصغيرة السمراء أنتيجون التي تحدت أمره وسلطته وخالفت قوانين البلاد.. حاول في البداية أن يخفي الموضوع ونصحها بأن تكف عن هذا الأمر، مداعبا إياها بكلمات أب ينظر إلى فعل أتاه صبيٌّ عزيز عليه.. لكنه فوجئ بشخصية كبيرة تقف أمامه.. بثائرة تحتقره بنظراتها وتزدري دوره الذي يقوم به في الحياة... إنه يفاجأ بفتاة تزدري الموت وتملك كبرياء أبيها أوديب الذي واجه الحقيقة وبحث عنها غير هياب ولا وجل من النتائج التي قد تترتب على مواجهة الحقيقة وعلى الإصرار على الوصول إليها.
ويعود كريون إلى حلم الأب والحاكم والناصح فيقول لها:
كريون: ـ إنني خالك، هذا مفهوم، ولكننا لسنا متحابين نحن أبناء هذه الأسرة.. ومع كل ذلك، ألا يبدو لك غريبا أن هذا الملك الذي تسخرين منه ويصغي إليك، هذا الرجل العجوز الذي يستطيع كل شيء ورأى الكثيرين يقتلون.. أؤكد لك أنهم أكثر إثارة للشفقة والحنو منك.. ومع ذلك فهو نفسه يجهد ما وسعه الجهد أن يحول بينك وبين الموت. لا أريد أن أتركك تموتين في مسألة سياسية، أنت تساوين أكثر من ذلك، لأن بولينس هذا الأخ المَبكي عليه، وهذا الجسم الذي يتحلل بين حراسه، وكل هذه الفاجعة التي تلهبك.. ليست إلا مسألة سياسية"؟
لكن عبثا يحاول كريون أن يقنع الفتاة، فهي مصممة على العناد، ومصرة على أن تعود وتدفن أخاها كلما كُشف عنه التراب، فهذا حق الأموات على الأحياء، وحق أخيها عليها، وهو مبدأ لا يمكن التخلي عنه، بما في ذلك أنه أمر إلهي.. وتتمادى في تحدي أوامر السلطة "الدولة".. وكريون يريد أن يحافظ على هيبة الدولة وسط هذا الخضم من الفوضى، إنه قال نعم وتولى مقاليد الأمر ولم يعد من السهل عليه التراجع ولذا فهو يقول لها:
كريون: ـ حاولي أن تفهمي لحظة أيتها البلهاء الصغيرة، لقد حاولت كثيرا أن أفهمك أنا، يجب مع ذلك أن يوجد من يقول نعم، يجب مع ذلك أن يوجد من يقود السفينة... فالسفينة تأخذ الماء من كل ناحية، إنها مليئة بالجرائم.. بالحماقات.. بالبؤس.. وها هي الدفة تهتز دون ضابط، ولا يريد البحارة أن يفعلوا شيئا.. إنهم لا يفكرون إلا بنهب المخازن، وها هم الضباط يصنعون لأنفسهم طودا صغيرا مريحا، لهم وحدهم وبه كل المؤن اللازمة من الماء العذب حتى ينجوا بجلدهم، والصاري ينشق وينكسر، والريح تهب، والأشرعة سوف تتمزق، وسوف تهلك كل تلك الحيوانات معا، لأنهم لا يفكرون إلا في إنقاذ جلدهم الغالي وشؤونهم الصغيرة. سهل أن يقول المرء لا، أمّا أنا فقلت نعم... يجب أن نتصبب عرقا وأن نشمِّر عن سواعدنا وأن نقبض على الحياة بملء يدينا وأن نغرق فيها حتى المرفق.. سهل أن نقول لا، ولو تحتم أن نموت... فليس علينا إلا أن نخلد إلى السكون وأن ننتظر، ننتظر لكي نعيش بل وننتظر لكي يقتلونا.. هذا إسراف في الجبن.. إنه من اختراع الإنسان وحده.
وعبثا وعبثا حاول ويحاول كريون إقناع أنتيجون بالصمت وقبول الحياة كما هي، وإطاعة القوانين، والتراجع عن التحدي. ويفلت منه الزمام عندما يسمع الناس بالقصة ويعرفون أن أنتيجون هي التي فعلت وبتحدٍّ مُعلَن.. فيأمر بأخذ الفتاة إلى مغارة لدفنها فيها حية. ويدخل ابنه هيمون، خطيب أنتيجون، متوسلا طالبا العفو من أبيه عنها.. ويقف كريون أمام اختيار صعب جدا فإما أن يختار العدالة وتطبيق القانون الذي سنه والذي يجب أن يطبقه على كل من يخالفه مهما كانت درجة قرابته منه، وبذلك يضبط أمور الدولة، ويبسط سلطته، ويحسِن تسيير الأمور.. وإمّا أن يسير وراء عواطفه ويداري أقرباءه وتسقط هيبته وهيبة الدولة.
ويصمم كريون على تطبيق القانون وإعلاء شأن السلطة وحماية الدولة.. لكنه يدفع ثمن ذلك غاليا... لقد دُفنت أنتيجون حية، لكن ابنه هيمون كان معها جثة هامدة في عناق أبدي في حفل زفاف غريب.. لقد نُقِل الخبر إليه فهرع لينقذ ما يمكن إنقاذه، لكنه يصل بعد فوات الأوان.. فيجلس بمواجهة الرزايا التي ألمَّت به!؟.. فماذا يفعل..؟
عند سوفوكليس في القرن الخامس قبل الميلاد، نجد أن أنتيجون مجرد عظْمة تطالعنا ونمتص حكمتها أو نرفض تلك الحكمة كل يوم.. إنها فتاة تقف ببطولة متحدية جور الحاكم وقسوة النظام وعدم إنسانيته.. تقف بمواجهة رجل دولة يريد أن يستتب النظام وأن يطبَّق على الناس كافة. إنها تراه مستبدا قاسي القلب، ويراها فتاة طائشة خُلقت لتقول لا وتموت. وسوفوكليس يقدم هنا خبرته في المجالين السياسي والاجتماعي قبل ما يقرب من ألفين وأربعمئة سنة، وتشير إلى تلك الخبرة أقوال عديدة منها القول الذي يسوقه على لسان أنتيجغون: "إن أكبر مزايا الظلم إنه يستطيع أن يقول ويفعل ما يريد من غير أن يخشى عقوبة".. وقول الكورس: "لن يعظُم حظ الإنسان من السعادة حتى يمازجها الشقاء".. وقول اسمين أخت أنتيجون: "أيها الملك! لا يستطيع العقل أن يثبت على حاله الطبيعية حتى يبلغ الألم أقصاه". وقول هيمون بن كريون: "مهما يكن الرجل حكيما، فليس من العار أن يتعلم ويتجنب العناد"، وقول كريون الحاكم: "ليس من سبيل إلى أن تعرف نفس الرجل وذكاءه وأخلاقه إذا لم يجلس مجلس الحكم، ولم يوكل إليه تدبير الدولة وحماية قوانينها"، وقوله أيضا: "إن المال ـ والسلطة ضمنا ـ أشد ما اخترعه الإنسان إفسادا للنفوس".
أمَّا عند كاتب معاصر هو الفرنسي جان آنوي الذي سقت في متن الحديث عن "القصة القضية أو القضية القصة" بعض مقاطع من حواره على لسان الشخصيات مقتبسَة من نصه المسرحي المعنون بـ"أنتيجون"، فيقول بلسان عصري على لسان كريون، بعد الذي حصل من مأساة، يقول بلسان كريون مخاطبا الصبي الذي يسير معه دائما: "إننا نواجه المُهمة... ولا يستطيع المرء مع ذلك أن يعقد ذراعيه ويقف مكتوف اليدين.. يقولون إنها شغلة قذرة، ولكن إذا لم يقم بها أحد فمن يقوم بها.. إذن من السهل أن نقول لا ونتخلى، ولكن الصعب أن نقول نعم ونتحمل النتائج ونواجه الحياة بكل معطياتها وبكل ما ينتج عن المواجهة".. وآخر آخر ما يقوم به كريون من عمل حسب نص آنوي أن يذهب إلى الجلسة المقررة لتسيير أمور الدولة، وهو بذلك يستمر في تحمل المسؤولية..
فلنُقارِب ولنَتأمَّل ولنُحاكِم ولنَحكُم ولنَختَر.. وما تشاؤون إلا أن يشاء الله.