■ الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا عـلى الظالمين والصلاة والسلام على الرسول الأمين الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وسـراجا للمهـتـدين وبشـيرا للمؤمـنين، ونذيـرا للـكافـرين واللحـدين، وعـلى آلـه وأصحابه أجـمعـين وعـلى التابعـين لهـم بإحسان إلى يـوم الـدين، وبـعـد:
نـودع عـاما هـجـريا مـضى، بمـا فـيه مـن مـواقـف سـلبية كـانـت أو إيجـابية، فـلا يـرجـع مـا مضى ولا يستــدرك ما فات، ونستـقـبـل عـاما جـديـدا يجـب أن لا ننسى الماضي بـل يجـب أن نحاسـب أنـفـسنا، ما الـذي كسبناه عـلى أنفـسنا، وما الـذي قـدمـناه لأنفـسنا ، فأيام تمـر وأعـمار تنقـضي، وكل ذلك محصي، قال الله تعالى:(فـمـن يعـمـل مثـقـال ذرة خـيرا يـره، ومـن يعـمل مـثـقـال ذرة شـرا يـره ) ( الـزلـزلة ـ 8).
ولـقـد دأب العـالم الإسـلامي الاحـتفـال بهـذه الــذكـرى العـظـيـمة ، ذكـرى رحـلة النـور والإيـمان، رحـلة الحـق والكـرامة، رحـلة العـلم والمعــرفة، رحـلة الهـجـرة النبوية من مكـة المكـرمة إلى المـدينة المـنـورة، ذكـرى هجـرة الـرسـول محمد بن عـبـد الله بن عـبـد المطـلب الهاشمي القـريشي (صـلى الله عـليه وسـلم).
وكانت الهـجـرة مـن مكـة المكـرمة واجـبة عـلى المـؤمـنين، قـال الله تبارك وتعالى: (إن الـذين آمـنـوا والـذين هـاجـروا وجـاهـدوا في سـبيـل الله أولئك يـرجـون رحمت الله والله غـفـور رحـيم) (البقـرة ـ 218)، وقال تعالى:(ودوا لـو تكـفـرون كما كـفـروا فـتـكـونون سـواء، فـلا تتخـذوا منهـم أولـيـاء حـتى يهاجـروا في سـبيـل الله) (النساء ـ 89)، وقال تعالى:(إن الـذين تـوفاهـم المـلائكة ظـالمي أنفـسهـم قالـوا فـيما كـنتـم قالـوا كـنا مستضعـفـين في الأرض قـالـوا ألم تكـن أرض واسـعـة فـتهـاجـروا فـيها فأولـئـك مـأواهـم جـهـنم وساءت مصيرا) (النساء ـ 97)، وقال تعالى:(ومن يهـاجـر في سـبيل الله، يجـد في الأرض مـراغـما كـثيرا وسـعـة، ومـن يخـرج من بـيته مهـاجـرا إلى الله ورسـوله ثـم يـدركه المـوت فـقـد وقـع أجـره عـلى الله وكان الله غـفـورا رحـيما) (النساء ـ 100).
فـبعـد مـوت أبي طـالب عـم الـرسـول (صلى الله عـليه وسـلم)، الـذي وقـف ذلك المـوقـف العـظـيم لنصـرة رسـول الله، وتبعـه مـوت زوجـه خـديجـة بنت خـويـلـد الـتي كانت في حـياة الرسـول لها طـابع المحـبة والمـدة، فـبعـد أن فـقـد الرسـول النصـيرين اللـذين كانا في حـياة الرسـول سـببا لتبـليغ رسـالة الخـالق إلى الخـلـق، اشـتـدت وطـأة قـريـش عـلى المسلمين ورسـول الإسـلام وطغـت يـد البطـش المعـادية، ووقـفـت قـريـش ذلك المـوقـف العـدائي وازدادت وطـأة قـريـش عـلى الـرسـول (صلى الله عـليه وسـلم) وعـلى المسلمين.
وبعــد بيعـتي العـقـبة الأولى التي بـايـع الـرسـول كـوكـبة مـن الأنصار وكان عـددها اثـني عـشـر رجـلا، فـتسامـع الأنصـار في المـدينـة ورغـبـوا أن يـدخـلـوا فـيما دخـل فـيه إخـوانهـم في العـام الماضي، فـجـاءت في العـام التالي كـوكـبة أخـرى أكـبر مـن الأولى، وتـواعـدوا مـع الـرسـول ليبـايـعـه بـيـع العـقـبة الثانية، فـكان عـددهـم ثـلاثة وسـبعـين ومـعـهـم امـرأتان، فـبايعـه (صلى الله عـليه وسـلم)، فـبـلـغ عـددهـم في البـيعـتين الأولى والثانية خمسة وثـمانين رجـلا وامـرأتين.
وقـد هـيأ الله جـو المـدينة المنـورة لاسـتقـبال المـؤمنين المهاجـرين الفارين بدينهـم، أمـر الـرســول (صلى الله عـليه وسـلم) المسـلمـين بالهـجـرة إلى المـدينة (يثـرب) لأن الجـو مناسب للهجـرة إليها، فـبـدأت طـلائـع النـور والإيمـان تتـجـه إلى المـدينة، قال الله تبارك وتعالى:( والـذين تـبـوأوا الـدار والإيـمان من قـبلهـم يحـبـون من هـاجـر إليهم ولا يجـدون في صـدورهـم حـاجـة مما أوتـوا ويـؤثـرون عـلى أنفـسهـم ولـو كان بهـم خـصاصة، ومن يـوق شـح نفـسه فأولـئـك هـم المفـلحـون) (الحشـر ـ 9).
فـمـنهـم مـن هاجـر مجـاهـرا بهـجـرته مـثـل عـمـر بن الخـطـاب رضي الله عـنه ومـن معـه، ومـنهـم من هـاجـر سـرا، ومنهـم هـاجـر بـبـذل ما يملك مـن المال مـثـل صـهيب بن سـنان المعـروف: (بصهـيب الـرومي)، والذي قـال الله في شـأن هـجـرته:(ومـن الناس مـن يشـري نفـسه ابتغـاء مـرضـات الله والله رءوف بالعـباد) (البـقـرة ـ 207).
ثـم أذن الله تبارك وتعالى لـرسـوله بالهـجـرة، وكان يصـحـبه في هـذه الـرحـلة المـباركة العـظـيمة أبـو بـكـر الصـديـق رضي الله عـنـه، فـكان نعـم الصـديـق في الحـضر ونعـم الـرفـيـق وفي السـفـر، فـلما خـرجـا مـن مكـة اتجهـا إلى جـبـل ثـور، وأويـا إلى غـار ثـور فـمـكـثا فـيه ثـلاثـة أيام، وقـد أعـد أبـو بـكـر راحـلـتين لهـذه المناسـبة، وقـد شـارك أهـل بـيت أبي بكـر في هـذه الـرحـلة مـشاركة مـنقـطـعـة النظـير، فـذات النطـاقـين أسـماء وأخـتها عـائشـة تـعـدان الـزاد للـرسـول وصاحـبه، وعـبـد الله بن أبي بكـر يـزودهـم بأخـبار قـريـش ليـلا ، وراعـي غـنـم أبي بكـر عـامر ابن فهـيرة يـزودهـم بالحـليب ويعـمي أثـر أقـدام عـبـدالله بن أبي بكـر عـنـدما يأتيهـم بأخـبار قـريـش لـيـلا، ويصبح في مكـة يلتـقـط الأخـبار، وهـكـذا كان مـوقـف أهـل بـيت أبي بكـر العـظـيم في انجـاح الهـجـرة والتفـاعـل معـها تفـاعـل محـبة وتعـاون.
وقـد اسـتأجـر الـرسـول (صلى الله عـليه وسـلم) عـبـدالله بن أبي أريـقـط دليلا لأمانته ومعـرفـته بالسـبـل المـوصلة إلى المـدينة (رغـم كـفـره) وتـرك الـرسـول الإمـام عـلي بن أبي طـالب ـ كـرم الله وجهه ـ أن يـنام عـلى فـراشـه ليهـم الناس أنه لم يغـادر مـنـزله، فـكان الإمـام عـليا أول فـدائي في الإسـلام، وحـتى يـرجـع الأمانات التي ائتـمنت قـريـش رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم).
وبعـد أن أذن الله لـرسـوله (صلى الله عـليه وسـلم) بالهـجـرة، أخـبره جـبر يـل عـليه السـلام أن لا يبيت في فـراشـه، ويـتـرك الإمام عـليا ينـام عـلى فـراشه ليـوهـم المتـربصـين مـن شـباب قـريش لقـتله، والواقــفـين أمـام باب بيـت رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم) أن الـرسـول لم يـغـادر تلك الليـلة مـنزله وأنه نائم في فـراشـه، وأن الإمام عـليا لم يـصبه شيء مـن كـيـدهـم.
ولكـن الشباب الـذين أعـدتهـم قـريـش لقـتـل الـرسـول بنـاء عـلى اتفـاقهـم في دار النـدوة أثـناء اجـتماعـهـم عـلى تـدبـير مـكيـدة للتخـلص مـن الـرسـول كانـوا واقـفـيـن بسـيوفهـم أمام الباب ينتظـرون خـروج الـرسـول ليضـربـوه ضـربة واحـدة، وقـد كشـفهـم الله الـذي لا تخـفى عـليه خافـية، قـال الله تعـالى: ( وإذ يمـكـر بـك الـذين كـفـروا ليثبتـوك أو يـقـتـلـوك أو يخـرجـوك ويمـكـرون ويمـكـر الله والله خـير المـاكـرين ) (الأنفـال ـ 30)، وخـرج الرسـول مـن بينهـم وهـم وقـوف، فـوضـع التـراب عـلى رؤوسهـم، ولم يشـعـروا بخـروجه قـط، وكان يتلـو قـوله تعالى: (وجعـلنا مـن بين أيـديهـم سـدا ومـن خـلفهـم سـدا فأغـشيناهـم فهـم لا يبصـرون) (يس ـ 9).
ويـروى أن الرسـول (صلى الله عـليه وسـلم) عـنـد ما هـم بالخـروج مـن مكـة ليـلة الهجـرة، اسـتقـبـل البـيت الحـرام داعـيا الله قائـلا :(اللهـم إنـك أخـرجـتـني مـن أحـب البلاد إلي، فأسـكـني أحـب البـلاد إلـيـك)، فـجـعـل الله المـدينة المـنـورة أحـب البـلاد إلى رسـول الله (صـلى الله عـليه وسـلم) لتأسيس الـدولة الإيمانية، التي كانت أول دولة تأسست في الإسـلام، وأقامـت العـدل بـين الناس لما هـيأه الله فـيها مـن الأمـن والأمان والإيـمان والـراحـة والاطـمئنان.
قال الله تبارك وتعالى:(إلا تنصروه فـقـد نصره الله إذ أخـرجه الـذين كـفـروا ثاني اثنين إذ هـما في الغـار إذ يقـول لصاحـبه لا تحـزن إن الله معـنا فأنـزل الله سكـينته عـليه وأيـده بجـنـود لم تـروها وجـعـل كـلمة الـذين كـفـروا السفـلى وكلمة الله هي العـليا والله عـزيـز حـكيم) (التـوبة ـ 400)، وقـوله تعالى:(إلا تنصـروه) فعـل مضارع زمـنه هـو الـزمن الحالي، ولـكـن الله يتـبـع المضارع بـفعــل ماضي هـو:(فـقـد نصره الله) فهـل يكـون الشـرط حاضـرا ومسـتقـبلا ، والجـواب ماضيا؟، نقـول: إن المعـنى إلا تنصـروه فـسينصره الله، بـدليـل أنه قـد نصره قـبـل ذلك في عـدة مـواقـف، وهـذا ليـس جـواب شـرط، وإنما دلـيـل الجـواب، فحـين يكـون دلـيـل الجـواب ماضيا، فـهـو أدل عـلى الـوثـوق من حـدوث الجـواب.
فحـين دعاهـم الله لينفـروا فـتثاقـلـوا، أوضح لهـم سـبحانه: أتظـنـون أن جهادكم هـو الـذي سينصـر محمدا وينصـر دعـوته؟ لا، لأنه سـبحـانه وتعالى قادر عـلى نصـره، والـدليـل عـلى ذلك أن الله قـد نصره من قـبـل في مـواطـن كـثيرة، وأهـم مـوطـن هـو النصر في الهـجـرة ، وقـد نصـره بـرجـل واحـد هـو أبـو بكـر الصـديـق ـ رضي الله عـنه ـ عـلى قـريـش وكل كـفـار مكـة، وكـذلك نصـره في بـدر بجـنـود لم تـروها.
فـسابقـة النصـر مـن الله لـرسـوله سـابقة ماضية، وعـلى ذلك فـليس هـو الجـواب ونـرى في قـوله تعالى : ( إلا تنصروه فـقـد نصره الله ) أن نصـر الله له ثـلاثة أزمنـة، فـإذ} تكـررت ثـلاث مـرات ، فـسبحانه يقـول:(إذ أخـرجه الـذين كفـروا ثاني اثنين إذ هـما في الغـار، إذ يقـول لصاحبه لا تحـزن إن الله معـنا) أي أننا أمام ثـلاثة أزمـنة: زمن الاخـراج، وزمـن الغـار، وزمـن الـذي قال فـيه الـرسـول (صلى الله عـليه وسـلم) لأبي بكـر الصـديـق:(لا تحـزن إن الله معـنا)، وقـد جـاء النصر في هـذه الأزمـنة الثـلاثة، ساعـة الاخـراج مـن مـكـة ، وسـاعـة دخـل سـيـدنا رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم) مـع أبي بكـر إلى الغـار وساعـة حـديثه مـع أبي بكـر الصـديـق ـ رضي الله عـنه.
ولسائل أن يسأل: هـل أخـرج الكـفـار رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم) مـن مكـة المكـرمة، أم أن الله هـو الـذي أخـرجـه؟، نقـول : إن عـناد قـومه وتآمـرهـم عـليه وتعـنتهـم أمام دعـوته، كل ذلك اضطـره إلى الخـروج ، ولكـن الله سـبحانه أراد بهـذا الخـروج هـدفـا آخـر غـير الـذي أراده الكـفـار، فـهـم أرادوا قـتله، وحـين خـرج ظـنـوا أن دعـوته سـوف تخـتـنـق بالـعــزل عـن الناس، ولـكــن الله أخـرجـه لتـنـسـاح الـدعـوة وتـتـقـوى وتـنتـشـر وأوضح لهـم سـبحانه: أنـتـم تـريـدون إخـراج محـمـد بتعـنتكم مـعـه، وأنا لـن أمكـنـكـم مـن أن تخـرجـوه مخـذولا، وسـأخـرجه أنا رغـما عـليكـم مـدعـوما بالأنصار، وقـالـوا: إن الهجـرة تـوأم البعـثة.
أي أن البعـثة المحـمدية جـاءت ومعـهـا الـهـجـرة، بـدلـيـل أن رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم) حـينما أخـذته أم الـمـؤمـنين خـديجـة بـنـت خويلد ـ رضي الله عـنها ـ إلى ورقة بن نوفل، بعـد ما حـدث له في غـار حـراء، مـن بـداية نـزول الـوحـي عـليه، قال له ورقة ابن نـوفــل: لـيتـني أكـون حـيا إذ يخـرجـك قـومـك، فـقال الـرسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم): (أمخـرجي هـم؟، قال ورقـة بن نوفل: نعـم لـم يأت رجــل قـومه بـمـثـل جـئت به إلا عـودي وأخـرج).
إذن فالهجـرة كانت مـرتبـطـة بالبعـثة مـع تكليـف رســول الله (صلى الله عـليه وسـلم) بالرسالة لماذا؟. لأنه (صلى الله عـليه وسـلم) كان أول مـن أعـلـن عـلى مسامـع سـادة قـريـش رسالة الحـق والـتـوحـيـد إلى قـومـه وعـشـيرته، قال الله تعالى:(وانــذر عـشيرتك الأقـربين) (الشـعـراء ـ 214).
فـفـكـرة الهـجـرة واردة مـع البعـثة، ولأن البعـثة هي الصـيحة التي دوت في آذان سـادة قـريـش وهـم سـادة الجـزيـرة، ولـو صاح بها في آذان قـوم ليسـوا مـن سـادة العـرب لقـالـوا: اسـتـضـعـف قـوما فـصاح فـيهم، ولـكـن صـيحة البـلاغ جـاءت في آذان سـادة الجـزيـة العـربية كلها، فانطـلقـوا في تعــذيـب المسلمين ليقـضـوا عـلى الـدعـوة إلى الله ، وشـاء الله سـبحانه وتعالى ألا ينصـره بقـومـه قـريـش في مكـة المكـرمة، لأن قـريشا ألفـت السيادة والـزعـامـة عـلى العـرب، بحـكـم تـربعـهـا عـلى الأمـاكـن المـقـدسـة ، فإذا جـاء رسـول لهـداية الناس عـامة بالإسـلام لقال مـن أرسـل فـيهـم: لـقـد تعـصـبت له قـريـش لـتـسـود الـدنيا كما سـادت الجـزيـرة العـربية كلها، فأراد الله سـبحانه أن يـوضح لنا لا، لـقـد كانـت الصـيحة الأولى في آذان سـادة العـرب قـريـش، ولا بـد أن يكـون نصـر الإسـلام لـيـس مـن هـذه البـلـدة بـل مـن بـلـد آخـر، حـتى لا يـقـال: إن العـصبية لمحمـد هي التي عـززت الإيمان بـرسالة محمد (صلى الله عـليه وسـلم)، ولـكـن الإيمان بـرسالة بالـرسـول محمد هـو الـذي كـون العـصبية لمحمد (صلى الله عـليه وسـلم)، لما فـي هـذه الرسـالة مـن الخـير العـميـم والـدين القـويـم والصـراط المسـتقـيم والفـضـل الجـسـيم.
ويـلاحـظ في أمـر الهجـرة أن فعـلها (هاجـر) وهـذا يـدلنا عـلى أن رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم) لم يهـجـر مكـة المكـرمة، وإنما هـاجـر أهـل مكـة المكـرمة، والمهاجـرة مفاعـلة مـن جـانبيـن، فـلما أعـنـتـه قـومه وضايقـوه خـرج، والاخـراج نفـسه فـيه نصـر وفـيه خـير وفـيه رفـع لمـنزلة الـرسـول، لأن رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم) خـرج وحـده مـن بيته، الـذي أحـاط به شـباب مكـة الأقـوياء المخـتارون مـن كل قـبائـل العـرب ليضـربـوه ضـربة رجـل واحـد، فـخـرج ونثـر الـتراب عـلى رؤوسـهـم فـتغـشى أمـرهـم وخـاب ظـنـهـم وكان أبـو بكـر الصـديق ـ رضي الله عـنه ـ ينتظـره في الخارج أي في بيته رضي الله عـنه، وكأن الله سـبحانه وتعالى يـريـد أن يثبت لهـم أنهـم لـن ينالـوا مـن رسـول الله (صلى الله عـليه وسـلم) ما كانـوا يـؤمـلـونه، لا بتآمـر خـفي ولا بتسانـد قـوي عـلني وهـذا نصـر الله فهـو الـذي نـصر عـبـده وأعـز جـنـده وهـزم الأحـزاب وحـده.
ويتـابع الله سـبحانه وتعالى قـوله:(إذ هـما في الغـار) ويتأكـد في الغـار نصـر آخـر للـرسـول (صلى الله عـليه وسـلم)، ذلك إن الـذي كان يقـص الأثـر الـذي اسـتعـانت به قـريـش واسـمه كـرز بن عـلقـمة الخـزاعي، وقـيـل سـراقـة ابن مالك قـد تتـبع حـتى جـاء إلى عـنـد مـدخـل الغـار، فـقال: هـذه قـدم محمد وهـو أشـبه بالمـوجـود في الـبـيت الحـرام، أي أشـبه بأثـر قـدم النبي إبـراهـيم خـليـل الـرحـمـن عـليه السـلام، ثـم قال: وهـذه قـدم أبي بكـر أو قـدم ابنه تجـاوزا هـذا المـكان، وكان قـاص الأثـر يتعـرف عـلى شـكل القـدم وأثـره في الأرض فـيستـدل به عـلى صـاحـبه.
وأضـاف: إنهـما ما تجـاوزا هـذا المـكان، إلا أن يـكـونا قـد صـعــدا إلى السماء أو دخـلا في جـوف الأرض، وبالـرغـم مـن هـذا التأكـيـد فإنهـم لـم يـدخـلـوا الغـار، ولم يـفـكـر أحـد مـنهـم أن يقـلب الحجـر أو أن يفـتـش عـن محمد وصاحـبه مـع أن هـذا أول ما كان يجـب أن يتـبادر إلى الـذهـن، ولـكـن عـناية الله ونـصـر الله لـرسـوله حـالا دون تحـقـيـق هـدف الكـفار، فـما دامـت آثار الأقـدام قـد انتهت عـنـد مـدخـل الغـار، كان يجـب أن يفـتشـوا الـغـار ولا يكـتفـوا بما رأوا عـلى مـدخـله مـن نسـج العـنـكـبـوت، لـكـن أحـدا لم يـلـتفـت إلى ذلك، لأن مـن بالغـار في معـية الله الـذي لا تـدركـه الأبـصار وهـو يـدرك الأبـصار وهـو اللـطـيـف الخـبير. ■

.. وللحديث بقية