د.جمال عبدالعزيز أحمد:
حدثُ الهجرة المباركة من أجل أحداث الإسلام العظيمة والجليلة، وفيه من الدروس والعبر والحكم والقيم ما لا ينتهي ولا يُعَدُّ بل يفيض، ولا يغيض، وفيه من العبر ما لا يسع الزمنَ ذكرُه، ولا يمكن الإحاطة به، وهنا أتحدث عن الجانب اللغوي فقط مرتبطا بالجانب العقدي، والإيماني، وذلك في بعض عبارات الرسول الكريم التي أوردها القرآن الكريم في هذه المناسبة، وفي كلمات الكتاب الحكيم، حيث يقول الله تعالى:(إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (التوبة ـ 40).
الذي قاله الرسول الكريم لصاحبه وحكي في القرآن الكريم وهما في الغار، هو (لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا)، وفي الغار قال الرسول الكريم لأبي بكر ـ رضي الله عنه:(يا أبا بكر، ما ظنك باثنين، الله ثالثهما؟، لا تحزن، إن الله معنا)، والمتهدئ المتبصر الواعي بقواعداللغة يتعجب من تلك الجمل، وهذه الأساليب التي رشحتْ على لسانه الشريف (صلى الله عليه وسلم) حيث إنها جميعًا تحتاج إلى رفع الصوت، وعلو النبرة، ووضوح الكلام، واهتزاز المكان، مع أن الظرف ظرف تَخَفٍّ، وأوانُ صمت، ولحظاتُ اضطراب، ورجف في الأفئدة، واصطكاك في الأرجل وتزحُّر اللسان، وصمت في البيان، وانحباس الأنفس، لكنْ هذا كان يمكن أن يحدث مع أحد آخر غير شخصه الشريف (صلى الله عليه وسلم) وهو المؤيَّد من ربه المثبت الممكن الموصول بمولاه، حيث إن الرسول (صلى الله عليه وسلم) مطارَد من قِبَل أهل مكة، وقد رصدوا مائة ناقة في مقابل مَنْ يقتله، أو يأتي به حيًّا، عائداً إلى مكة، وكان سراقة بن مالك قد انبرى للحصول على تلك الجائزة الثمينة في هذا الزمن البعيد التي تقدَّر في مقاييس عصرنا هذا بالملايين، لكن الأساليب اللغوية التي وردت في القرآن الكريم، وعلى لسان الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) في هذه الرحلة الشاقة، إذا وضعت على بساط التحليل اللغوي، وقواعد النحو وجدنا عجبًا، فأبو بكر ـ خوفاً على الرسول وهو نبي الإسلام ـ كان يتكلم بصوت خفيض، ويقول ـ عندما وصلتْ أقدام الطالبين لهم، والقاصين سيرهم، المتتبعين لها، والمحترفين في قص الأثر: عندما وصلتْ أقدام المشركين إلى غار ثور الذي تخفي فيه الرسول وأبو بكر، فكان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ يقول:(يا رسول الله، لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا) هي جملة بدأت بالأداة (لو) التي تفيد امتناع حصول الجواب لامتناع حصول الشرط، أيْ أنه لو نظر أحدهم تحت قدميه، وتحقق ذلك منه لتحققتْ رؤيتهم لنا، ولقتلونا، أو أسرونا، وأعادونا إلى مكة، وضاع كل شئ، ولطَغَا الشركُ، وعربد الكفرُ من جديد، وبشدة وحِدَّة.
هي بالفعل جملة أطلقها سيدنا أبو بكر من شدة خوفه، وحدبه على الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم)، ولكنَّ الرد النبوي جاء هادرًا مدويًا، بعبارات وجمل كلها عالية الصوت، تهزُّ المكان هزاً:(يا أبا بكر ما بالك باثنين الله ثالثهما لا تحزن إن الله معنا)، فقوله:(يا أبا بكر) هو أسلوب نداء، استُعملت فيه أداة النداء (يا) التي تستعمل للقريب، والبعيد، وليست الهمزة (أ) ، ولا (أي) التي وُضعت لنداء القريب، وإنما (يا) ذات الصوت العالي، وفيها ألف المد التي تفيد طول النَّفَس ثَمَّ طول الزمن بسبب استعمالها لنداء البعيد كذلك.
والتعبير بـ(يا أبا بكر) هو تركيب إضافي، يطيل أمدَ النداء، وفيه مزيد من علوِّ الصوت لطول زمن النطق به، فليس مفردا علَمًا، ولا نكرة مقصودة، أو نكرة غير مقصودة، ولكنه منادًى مضافٌ، ثم يأتي أسلوب الاستفهام:(ما بالك باثنين؟) أيْكيف بك باثنين ليسا وحدهما، وإنما معهما ربُّهما، معهما اللهُ، صاحب القوى والقدرة، والذي بيده ملكوت كل شئ، كيف يكون حالهما من الثبات، وشأنهما من اليقين؟!، ثم عقَّب بجملة خبرية، هي:(الله ثالثهما)، وهو أسلوب خبريٌّ، كله يقين فؤاد، وثبات قلب، وكمال هدوء نفْس:(ما بالك باثنين، الله ثالثهما؟)، أسلوب إنشائي، وهو عالي الصوت، تخلَّله أسلوبٌ خبريٌّ يفيد الثبات، وكأنهم لا يخافون شيئاً مهماً كانت قوته، ومهما بلغت قدرته، ثم جاء أسلوب النهي كذلك هادرًا، عاليَ الصوت،جهوري النبرة، تأتي فيه الأداة ذات النبرة العالية حتى تفرق بين (لا) النافية ذات الصوت الخفيض الهابط.

* جامعة القاهرة ـ كلية دار العلوم بجمهورية مصر العربية
[email protected]