تشهد السلطنة نهضة ثقافية واسعة منذ سبعينات القرن الماضي. وتعرف الفنون التشكيليّة خاصة تراكم تجاربٍ مختلفة يمكنُ تصنيفها عبر جيلينِ زمنيين غير منفصلين عن بعضهما. وهذا التواصل بين المؤسسين للحركة التشكيليّة الحديثة في السلطنة واللاحقين من بعدهم صنع نوعًا من التماهي الشفّاف والانتقال التقني والفكري الهادىء بين مختلف هذه التجارب المهمّة في أغلبها. فالفنّ زئبقي المزاج، مُلائم لنظرة ناقد ومناهض لمنهج آخر. وهذا الاختلاف في التصّورات والتأملات يمنح العمل الفنّي عمرًا و ماهية، لأن تباينَ القراءات هو جوهر المسألة النقديّة. وقد اخترتُ تجربة التشكيلي العماني عبدالكريم الميمني لأتأمل فيها وإياكم محاولا فهم عوالمه الخفية والظاهرة. وأتبيّن مسالك رؤيته ورؤاه عبر تحليل بعض أعماله التشكيلية الحديثة. تقعُ تجربة الميمني في منزلة بين المنزلتينِ، فلا هو من الجيل المؤسس مع أنور سونيا ومريم الزدجالي والراحل أيوب البلوشي وغيرهم، ولا هو من الجيل الجديد مثل سالم السلامي وعيسى المفرجي حيث تقعُ التجربة بينهما أساسا، حبل يربط بينهما مع عالية الفارسية ونائلة المعمرية؛ يبدأ مع الأوائل ويتواصل مع المحدثين. ولأن لكل تجربة ظروف نشأة وأسباب تواصل، ولأن لكل فنان رؤية وفكرة وأسلوب فإن تجربة الميمني لم تشذّ عن هذه القاعدة. وبالتركيز على آخر أعماله التي اختار لها "البذور" ثيمةً عنوان عمل عبر التوقف عند العتبة الأولى (العنوان)، أن الاختيار لم يكن اعتباطيّا مجرّدا، وانّما ذو دلالة ورمزية واضحة. فالبذرة أساس حياة، تنبت لتموت وتموت لتنبت من جديد، وهذه جدلية فلسفية قائمة في حد ذاتِها تحيلنَا إلى الجدل الصاعد والجدل النازل لأفلاطون وحتى هيغل إذا ما أردنا. وقد أفهم من اختيار التميمي للبذرة، حيرة وجوديّة قديمة متجددة، سؤال الحياة والموت. هنا تسحبنَا أعمال الفنّان إلى طرح السؤال. سؤال كانطيٌّ: ماذا عليّ أن آمل؟.. إذا حسب تقديري فإن اللوحة من بعدها الفلسفي قد حقّقت مبتغاها، ولا مبتغى غير الحيرة والتساؤل والتّأمل في المآلات..
أما من الجانب البنيويّ الماديّ، فقد جاءت أعمال الميمني كلاسيكيّة من حيث المواد: أكريليك على قماش، الوان مائية على ورق، وألوان زيتية على قماش، بينما حافظت مختلف الأعمال على وحدة الموضوع "البذرة" حسب مفهومه التشكيلي "concept". ولم يكن اختيار الألوان بعيدا عن الوحدة أيضا فقد جاءت أغلب اللوحات مشعّة وواضحة عبر استعماله المكثف للألوان الحارّة والتي أتت متجاورة في أغلب وحداته الشكلية، وهذا ما يشكّل نوعًا من الاشعاع الضوئي يصنعُ صعوبة التنقل بينها بصريّا إلا عبر مجهود تأمليّ.
وإن كان الميمني قد التزم بوحدة موضوعه، فانّه التزم بوحدة الشكل الخارجي لمختلف الأعمال، والتي جاءت عمودية، تتوسط اللوحة، تاركة مجالا واسعا للخلفيّة. وإن بدى نمط الأعمال التشكيلية في مجمله تجريديّا عبر اختيار الأشكال الهندسية والخطوط المستقيمة لتكوين الوحدات الشكلية داخل مسطح العمل الفني، فإنه في بعض أعمالهِ التي أضاف لها شكل زهرة أو غضن على الجانبين يكونُ قد دحرج العمل من طابعه التجريدي إلى إحداث اضطراب وخلل في تحديد طبيعة العمل حيث مزج بين مدرستين مختلفتين حد التضاد أحيانًا (التجريدية والانطباعية).
وتندرجُ أعمال الميمني في مجملها ضمن خانة الأعمال التجريديّة، وقد وصل عبر تراكم التجربة إلى انتهاج مسلك خاص بهِ يتمثّله ويعبر عنه وبهِ عن فكرة حوّلها إلى شكل يمكننا التمعن فيه وادراكه بصريّا.
إن الانزياح الذي قام به الفنان اثر تحويل البذرة إلى عمل تشكيلي ينمو خارج أطر الطبيعة، ويُزهرُ داخل مسطح اللوحة يذكرنَا بشجرة الفنان الهولندي موندريان. وكم كانت الطبيعة ملهمًا أساسيّا للفن منذ مختلف الأزمان وصولا إلى اليوم. ليست الطبيعة التي تحيط بِنَا ولا نتحسس جمالياتها إلا لُمامًا، وإنّما طبيعة أخرى مُجاورة ومتجاوزة تنشأ من بذرة فكريّة في ذهن فنّان وتتحوّل إلى عمل فنّي قائم بذاته، يحملُ جمالياته وتعبيراته ويُفرزُ قضاياه وموضوعاته. هذا الاستفزاز الفكري الذي يُمارسه الميمني على ألوانِه المتقاربة والمشعّة يستحيلُ سمفونية مكتملة تستدعينَا للتأمّل العميق والهادىء. تأمّل الولادة التي تفضي إلى ولادة أخرى دون صخبٍ.