محمود عدلي الشريف*
قدم على الرسول (صلى الله عليه وسلم) وفد بني مرة ابن كعب بن لؤي، وفي: بَنِي مُرَّةَ بْنِ نُشْبَةَ بْنِ غَيْظِ بْنِ مُرَّةَ ورئيسهم: الحارث بن عوف بْن سنان بن أبي حارثة بْنِ مُرَّةَ ، وكان يُكنّى (أبا أسماء)، وَهُوَ صَاحِبُ الْحَمَالَةِ فِي حَرْبِ دَاحِسَ بين عبس وذبيان، وَكَانَ أَحَدَ الرُّؤُوسِ فِي يَوْمِ الْأَحْزَابِ، ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ، وكان من فرسان الجاهلية المشهورين, أسلم وعليه شيء من دمائها، فأهدره النبي (صلى الله عليه وسلم)، (الطبقات الكبرى، ص: 634)، كما سيأتي وفدوا بعد منصرف رسول الله (صلى الله عليه وسلم) من تبوك سنة تسع، وكانوا ثلاثة عشر رجلًا، قال الواقدي:(فنزلوا في دار بنت الحارث، ثم جاءوا إلى النبي (عليه الصلاة والسلام)، فقال الحارث: يا رسول الله، إنّا قومك وعشيرتك، إنّا من لؤي بن غالب، فتبسَّم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال له: أين تركت أهلك؟ قال: بسلاح فقال لهم ـ عليه الصلاة والسلام: كيف البلاد؟ فقالوا: والله إنا لمسنتون ـ أي: مجدبون، زاد في الرواية: وما في المال مخ: كنَّى بالمخ عن شدة هزال المواشي ـ فادع الله لنا، فقال ـ عليه الصلاة والسلام:(اللهم اسقهم الغيث)، ثم أقاموا أيامًا، فأرادوا الانصراف إلى بلادهم، فأتوا النبي (صلى الله عليه وسلم) مودِّعين له، فأمر بلالًا، فأجاز كل واحد بعشرة أواق فضة، وفضَّل الحارث فأعطاه اثنتي عشرة أوقية، ورجعوا بالجائزة, فوجدوا بلادهم قد أمطرت في ذلك اليوم الذي دعا لهم فيه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وأخصبت بعد ذلك بلادهم، ووصف كثرة الخصب، فقال (صلى الله عليه وسلم): الحمد لله الذي هو صنع ذلك، وقدم على المصطفى وهو يتجهز لحجة الوداع قادم منهم، فقال: يا رسول الله, رجعنا إلى بلادنا فوجدناها مصبوبة مطرًا في ذلك اليوم الذي دعوت لنا فيه، (شرح الزرقاني على المواهب اللدنية بالمنح المحمدية 5/ 217)، وكذا قال الواقدي، انظر في (البداية والنهاية، ط: إحياء التراث 5/ 104)، وفي (نهاية الأرب في فنون الأدب (18/ 28): إن الحارث بن عوف أتى النبي (صلى الله عليه وسلم)، فقال: ابعث معي من يدعو إلى دينك، وأنا له جار، فبعث معه رجلًا أنصاريًّا، فغدا به عشيرة الحارث فقتله رَجُل من بني ثعلبة يُقال لَهُ مزاحم بْن شِجنة، وفي أسد الغابة: ولم يستطع الحارث أن يمنع عنه، فقال حسان:
(يا حار من يغدر بذمة جاره .. منكم فإن محمدًا لا يغدر، وأماته المري حيث لقيته .. مثل الزجاجة صدعها لا يجبر، إن تغدروا فالغدر منكم عادة .. والغدر ينبت في أصول السحبر، فاعتذر وودي الأنصاري)، وقال: يا محمد, إني عائذ بك من لسان حسان، لو أن هذا مزج بماء البحر لمزجه. (الاستيعاب في معرفة الأصحاب 1/ 296). وجعل الحارث يعتذر، وبعث القاتل إبلا في دية الأنصاري، وفي (أنساب الأشراف للبلاذري (13/ 101): بعث بدِيةِ الرجل سبعين بعيرًا فقبلها رسول الله (صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)، ودفعها إلى ورثته، وَيُقَال إن الرجل من غير الأنصار، ويحكي عنه في الجاهلية: قَالَ الحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ المُرِّيُّ لخَارِجَةَ بْنِ سِنَان ـ وَكَانَا مِنْ سَادَةِ بَني مُرَّة: أَتُرَاني أَخْطُبُ إِلى أَحَدٍ فَيَرُدُّني قالَ: نَعَمْ، قَالَ وَمَنْ ذَاك؟ قَالَ أَوْسُ بْنُ حَارِثَةَ الطَّائِيّ، فَقَالَ: ارْحَلْ بِنَا إِلَيْهِ ، وَرَكِبَا حَتىَّ أَتَيَاه، فَلَمَّا رَأَى الحَارِثَ بْنَ عَوْفٍ قَال: مَرْحَبَاً بِكَ يَا حَارِث، قَالَ وَبِك، قَالَ مَا جَاءَ بِك؟ قَالَ جِئْتُكَ خَاطِبَاً، قَالَ :هَذَا لَيْسَ لَك ـ فَانْصَرَفَ وَلَمْ يُكَلِّمْه، وَدَخَلَ عَلَى امْرَأَتِهِ مُغْضَبَاً؛ فَقَالَتْ: مَنِ الرَّجُلُ الَّذِي وَقَفَ عَلَيْكَ فَلَمْ يُطِلْ وَلَمْ تُكَلِّمْهُ؟ قَال: ذَاكَ سَيِّدُ الْعَرَب، قَالَتْ: لَمْ تَسْتَنْزِلْهُ ؟!قَال: إِنَّهُ اسْتَحْمَق، قَالَتْ كَيْف؟ قَالَ جَاءَني خَاطِبَاً؛ قَالَتْ: أَفَتُريدُ أَنْ تُزَوِّجَ بَنَاتِك؟ قَالَ نَعَمْ؛ قَالَتْ: فَإِذَا لَمْ تُزَوِّجْ سَيِّدَ العَرَبِ فَمَن؟! فَتَدَارَكِ الأَمْر، تَلْحَقُهُ فَتَرُدُّهُ، وتَقُولُ لَهُ: لَقِيتَني وَأَنَا مُغْضَبٌ بِأَمْرٍ فَلَمْ يَكُن عِنْدِي فِيهِ مِنَ الجَوَابِ إِلاَّ مَا حَضَر، عُدْ وَلَكَ مَا أَحْبَبْت، فَرَكِبَ في أَثَرِهِمَا فَلَمَّا رَآهم صَاحَ بِهم: يَا حَارِث أَرْبِعْ عَلَيَّ سَاعَة؟ فَوَقَفْا لَهُ، فَكَلَّمَهُ بِذَلِكَ الْكَلاَمِ فَرَجَعَ مَسْرُورَاً وَدَخَلَ أَوْسٌ مَنْزِلَهُ وَقَالَ لِزَوْجَتِه: ادْعِي لي فُلاَنَة ـ لاَبْنَتِهِ الْكُبرَى ـ فَأَتَتْهُ، فَقَالَ لَهَا: يَا بُنَيَّة؛ هَذَا الحَارِثُ بْنُ عَوْفٍ سَيِّدٌ مِنْ سَادَاتِ الْعَرَب جَاءَني خَاطِبَاً، وَأَرَدْتُ أَن أُزَوِّجَكِ مِنهُ، قالَتْ: لاَ تَفْعَلْ؛ قَالَ وَلِمَ ؟! قَالَتْ لأَنيِّ امْرَأَةٌ في وَجْهِي ردة ، وَفي خُلُقِي بَعْضُ العُهْدَة ،وَلَسْتُ بِابْنَةِ عَمِّهِ فَيَرْعَى رَحِمِي، وَلَيْسَ بجَارِكَ في الْبَلَدِ فَيَسْتَحْيِي مِنْك، وَلاَ آمَنُ أَنْ يَرَى مِنيِّ مَا يَكْرَهُ فَيُطَلِّقَني، فَيَكُونُ عَلَيَّ وَعَلَيْكَ في ذَلِكَ مَا تَعْلَم فقالَ: قُومِي بَارَكَ اللهُ فِيكِ، ادْعِي لي فُلاَنَة ـ لاَبْنَتِهِ الوُسْطَى ـ فَدَعَتْهَا، ثُمَّ قَالَ لَهَا مِثْلَ قَوْلِهِ لأُخْتِهَا، فَأَجَابَتْهُ بِمِثْلِ جَوَابِهَا، َفقالَ: ادْعِي لي فُلاَنَة ـ لاَبْنَتِهِ الصُّغْرَى ـ فَأتت فَقَالَ لَهَا كَمَا قَالَ لأُخْتَيْهَا، فَقَالَتْ: أَنْتَ وَذَاكَ يَا أَبي، واللهِ إني الجَمِيلَةُ جْهَاً، الصَّنَاعُ يَدَاً، الرَّفِيعَةُ خُلُقَاً، الحَسِيبَة أَبَاً، فَإِنْ طَلَّقَني فَلاَ أَخْلَفَ اللهُ عَلَيْه! فَقَالَ بَارَكَ اللهُ عَلَيْكِ؛ ثُمَّ خَرَجَ إِلى الحَارِثِ فَقَال: زَوَّجْتُكَ يَا حَارِثُ فُلاَنَة ـ لِصُغْرَى بَنَاتِه ـ قَالَ قَبِلْت؛ فَأَمَرَ أُمَّهَا أَنْ تُهَيِّئَهَا وَتُصْلِحَ مِنْ شَأْنِهَا، ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِبَيْتٍ فَأَنْزَلَهُ فِيه، فَلَمَّا هُيِّئَتْ بَعَثَ بِهَا إِلَيْه، فَلَمَّا أُدْخِلَتْ إِلَيْهِ قَالَتْ مَه ـ أَيِ اسْكُن ـ أَعِنْدَ أَبي وَإِخْوَتي ذَا وَاللهِ مَا لاَ يَكُون، فَأَمَرَ الحَارِثُ بِالرِّحْلَةِ فَارْتحَلْا، ثُمَّ مَالَ بِهَا إِلى جَانِبِ الطَّرِيق ـ فقَالَتْ: أَكَمَا يُفْعَلُ بِالأَمَةِ الجَلِيبَةِ أَوْ بِالسَّبْيَةِ الأَخِيذَة ؟!لاَ وَاللهِ حَتىَّ تَنحَرَ الجُزُر، وَتَذْبَحَ الْغَنَمَ وَتَدْعُوَ العَرَب، وَتَعْمَلَ مَا يُعْمَلُ لِمِثْلِي، فَرَحَلْنَا حَتىَّ جِئْنَا بِلاَدَنَا، فَأَحْضَرَت الإِبِلَ وَالْغَنَمَ وَنحَرَت وَدَعَا الْقَبَائِل، ثُمَّ دَخَلَ عَلَيْهَا، وقَالَ: قَدْ أَقَمْنَا مِنَ الْوَلاَئِمِ مَا قَدْ تَرَيْن، فَقَالَتْ: وَاللهِ لَقَدْ ذُكِرَ لي عَنْكَ مِنَ الشَّرَفِ مَا لاَ أَرَاهُ فِيك، قُلْتُ وَكَيْف؟! قَالَتْ: أَتَفْرَغُ لِلنِّسَاءِ وَالْعَرَبُ يَقْتُلُ بَعْضُهَا بَعْضَاً، اخْرُجْ إِلى هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ فَأَصْلِحْ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ ارْجِعْ فَلَنْ يَفُوتَكَ مَا تُرِيد، فَمَشَى فِيمَا بَيْنَهُمْ بِالصُّلْح؛ فَاصْطَلَحُواْ عَلَى أَنْ يحْتَسِبُواْ الْقَتْلَى، وَيُؤْخَذَ الْفَضْلُ مِمَّن هُوَ عَلَيْه، فَحَمَلْ عَنهُمُ الدِّيَات، فَكَانَتْ ثَلاَثَةَ آلاَفِ بَعِيرٍ فى ثَلاَثِ سِنِين، فَانْصَرَفْ بِأَجْمَلِ الذِّكْر؛ وَمَدَحَه زُهَيرُ بْنُ أَبي سُلْمَى بِمُعَلَّقَتِهِ المشهورة (موسوعة الرقائق والأدب ـ ياسر الحمداني ص: 6670)، و(تفسير الشعراوي 19/ 12086).

*[email protected]