[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/uploads/2017/03/rajb.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]د. رجب بن علي العويسي[/author]
احتفت السلطنة مع سائر البلاد الإسلامية والمسلمين في بقاع المعمورة قاطبة بعيد الفطر السعيد، بعد صيام شهر رمضان المبارك، وما حملته من نفحاته الروحانية وبركاته السرمدية، وقواعده الإيمانية، ما يصقل النفوس ويهذب الأخلاق ويزين الوجود ويعطر الحياة ويريح النفس ويرقى بالضمير ويصقل المهارة ويجند الإرادة ويعزز الموهبة ويبني القيم وينهض بسواعد النفس الأبية طامعة في جنات الله الأبدية وفضائله القدسية، ويؤسس لمفهوم أعمق للحياة في ظلال المبادئ والأخلاق والالتزام وحس المسؤولية وتربية النفس على الصبر والتحمل ومكابدة المعصية وترقية الشعور الإيماني بقيمة البذل والصدقة والنفقة وتقديم كل منصات الخير والفلاح، وإفساح المجال لقراءة الحياة في ثوب الصدق والثبات على المبادئ والمحافظة على الحقوق ونشر فرص السلام والتعاون والتكامل؛ ووأد كل مسببات الفتنة ومهدرات، الكرامة ومنغصات التنمية ومقلقات النفس؛ فكان عيد الفطر السعيد بذلك نافذة متجددة للحياة في ظلال السلام والأمان، يحمل للإنسانية مبادئ الخير والتسامح والعفو والصفح والاخوة، ويؤسس لنهضة التضامن والتآلف والتكاتف. إنها محطة للوقوف على سر الهداية الربانية، ونزول النفحات الإلهية، يرسم للإنسان مسارات التفاؤل والإيجابية ويؤسس فيه قيم الخيرية والبر والإحسان، ويرسم في محياه ابتسامة الأمل وإشراقة النفس، ويعظم فيه قيمة التواضع ومد يد السلام والتصافح، لتزول عن النفس الأحقاد وثورة السلبية وتنهض قيمة الإنسان في سمو فكره وتنازله عن فوقيته، لتصبح هذه المواسم والأعياد مسيرة لبناء حياة منهجية متوازنة، قائمة على حب النظام واستشعار سلوك الإيجابية وترسيخ قيم المسؤولية، وفرصة لاستراحة النفس بعد إعادة تصحيح مسارها، وإعادة النظر في السلوك كمنطلق لبناء الذات وحكمة التصرف وإدارة المواقف اليومية، على أن ما يحمله عيد الفطر السعيد من معانٍ نبيلة وقيم أصيلة وقواعد للسلوك الإيماني، وما وجهت إليه من الذكر والدعاء والتكبير وصلاة العيد والسلام والمصافحة، وندبت إليه من لبس الجديد والطيب والزيارة للأقرباء والأرحام وتبادل الود بين الأخوة والجيران وأبناء المجتمع، وإظهار معاني البشر والسرور والتفاؤل والابتسامة، والصدقة والعطف على فقراء المسلمين وذوي الحاجة، منطلقات لفهم الحياة في صورة العطاء المستدام، وتأكيد مبادئ الإيثار والتسامح والسلام وترقية العاطفة وحسن توجيهها، بما يحقق منظومة التكامل والتعاون بين بني البشر.
على أن احتفاء المسلمين بعيد الفطر السعيد يأتي في ظل ظروف ومتغيرات خطيرة تعيشها المنطقة تعاني فيها بعض بلدان العرب والمسلمين فوضى الحرب والتخريب والتدمير لبنيتها ومواردها وثرواتها وإنسانها، وحالة القطيعة وضعف الثقة والحصار والتشاحن والأحقاد والكراهية، وهي حالة بدت متجانبة مع دعوات الإسلام العظيمة للوحدة والتكامل والأخوة ونبذ كل مسببات الفرقة والخلاف وتقوية كل الممكنات التي تأخذ بيد الأمة إلى معاني القوة، بما يؤكد حاجتها إلى التغيير وإعادة هندسة الواقع الذي تعيشه الأمة، بحيث يبدأ من الإنسان المسلم نفسه عبر تصحيح ممارساته، والإعلاء من قيمه ومبادئه والإعلاء من منابر الخير في تصرفاته وتعميق مفاهيم الإنسانية الراقية في تعاملاته، إنها محطات لقراءة الحياة في ثوبها المتجدد، وتطورها ووعي الإنسان بمتطلباتها وإدراكه لمقتضياتها، ومنطلقات ترسيخ قيمة التغيير في ذات الإنسان نفسه وإصلاح حاله، امتثالا لقول الله تعإلى" إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ"[الرعد:11]، وما يعنيه ذلك من حاجة الأمة لأن تستفيد من مواسم الفضل والخير في إعادة لحمتها وبناء إنسانها وترقية ممارساته وإعادة تصحيح مسارها وتعميق دورها في قيادة الإنسانية لبر الأمان، فإن في هذه المواسم تجديدا للنفس وترقية للضمير وحفزا للمنافسة وترسيخا للشعور الإنساني النبيل بفئات المجتمع الأخرى من الضعفاء والمساكين والمحتاجين، وتعميقا لمسيرة الوسطية للأمة في مراجعة حساباتها مع نفسها ومساهمتها في تحقيق رسالة السلام والأمان والتنمية، فإن ما تعيشه بعض مناطق العالم الإسلامي وواقع المنطقة العربية على وجه الخصوص وما تعانيه الأوطان من اختزال لمعاني وجودها وانتهاك لحرماتها وتدنيس لترابها وتضييع لمواردها وهدر لثرواتها وتسفيه لمشروعاتها وعرقلة لبنائها، في ظل فتن منتشرة وحروب طاحنه، وشاحنات وعداوات قضت على الأخضر واليابس وأذابت الصخر من هول ما خلفته من مآسٍ وكره وأحقاد بين أبناء الوطن الواحد، فأذهبت ببريق المآثر وأزالت ذكريات اللقاء واجتماع الكلمة وصفو المودة وأسدلت على ما خلفته قيادات الأمة المخلصة وحكامها المؤمنين بعطائهم، الواثقين من وفائهم ثوب الحزن والبكاء على الأطلال، وليس من مخرج لهذا الواقع في ظل مفاتيح الأمل ومخارج الطوارئ التي تنتجها المواسم والأعياد الإيمانية إلا الرجوع إلى منهج السماء وإدارة خلافاتها وتصحيح أوضاعها واجتماع كلمتها ونهضة إنسانها وترقية كل مسارات الوحدة والتعاون والتضامن وتصحيح البناء الفكري وتقوية مشروعها الحضاري وإعادة قدسية مبادئها الحضارية وسيرتها العطرة التي رسمها سيد الخلق في بناء الدولة ونهضة الأمة؛ وترميم كل التصدعات التي باتت تستشري في الأمة سريان النار في الهشيم، وتضع أحوال الأمة أمام حالة من الاستغراب في غوغائية سياسية وعداوة إعلامية ونفوق أخلاقي وقيمي يعني من أزمة الحساسية لأتفه الأسباب حتى انتشرت في التعاملات وضعف فرص الحوار ومشاعر اللقاء من أروقة السياسة إلى المجتمع، ومن منصات الإعلام الرسمية إلى مجالس الناس وتجمعاتهم وعلاقاتهم الاجتماعية، وبين الأرحام والأصدقاء والأخوة أبناء البيت الصغير والوطن الكبير.
إن عيد الفطر السعيد بما يحمله من فرص للحوار والتواصل والسلام والتعايش والتناغم والتكامل والود، وما يؤسسه من مفاهيم الإصلاح والمسؤولية والاحترام والتقدير، وما يبنيه في ذات الإنسان المسلم من مشاعر صادقة قوامها الحب والتآلف والتعاون، وعنوانها ابتسامة صادقة في وجه الصغير والكبير، لتتسع دائرة التواصل مع الجيران والأصدقاء وأهل البلدة وجميع المواطنين وأبناء الأمة جميعها، بما تسطره من سيرة عطرة تنثر عبير سلامها للعالم وتهدي أريج عطرها للإنسانية، وتمسح عن أعين الضعفاء والمشردين والمقهورين والحائرين والثكالى واليتامى والمعوقين والمفجوعين دموع الألم والحزن والحسرة، فيكون العيد بذلك حياة السلام، ولباس السعادة والطمأنينة والاستقرار والأمل والحب والوئام والتعايش، فتقترب من عواطفهم وتأخذ بأيديهم وتسعد أساريرهم وتهدي حائرهم وتلقي عليهم تحية الإسلام والسلام بردا وسلاما وأمنا وأمانا، فيجد العالم في سلوك هذه الأمة مدخلا لتصحيح كل المفاهيم المغلوطة والأفكار الخادعة والإعلام المسيس الذي بات يشوه صورة الأمة ويصور أحداثها فيما تحمله من عداوة للإنسانية وإضلال للبشرية، وشريعة الله من ذلك براء، لذلك كانت الأمة مطالبة اليوم بأن تجد في مواسم الإسلام العظيمة وأعياده الباسمة فرصتها لبناء نماذج السلام وتجديد مفرداته وتعميق مشاعره وأحاسيسه وإرهاصاته في سلوك المسلم، فإن ما يحمله رمضان وعيد الفطر السعيد من معاني الخير والكرم والتكريم، فرصة للأمة في تقوية مبادئ التواصل والتكامل وتقريب وشائج القربى، ومد جسور التواصل وتقوية نهج كلمة الحق السواء وترسيخ عادات الحوار ورسم منهجياته، وتعميق أطره في تعاملها مع قضاياها الداخلية، وإدارة أزماتها المتتالية ملتزمة حسن الظن والثقة وقوة طرح البدائل، وترسيخ هوية الأمة في التعامل مع قضايا العالم المختلفة وملفاته الاستراتيجية الساخنة في التنمية والبيئة والأمن والاقتصاد والتعليم والبحث العلمي والاختراع والابتكار، فإن حياة قائمة على تأكيد رغبة التكامل في نسج خيوط الأمل، وفتح المجال لكل أشكال التواصل والحوار، لحري بها الوصول للهدف، وبلوغ القصد ودخول المنافسة وتفوقها فيها، وتحقيق منجزات أكثر استدامة، وأعمق أثرا، وأكثر نضوجا لبناء مستقبل الأجيال.
إن أمة الإسلام اليوم مطالبة بمراجعة كل هذه المحطات التي سجلتها مواقف رمضان، ليكن عيد الفطر السعيد ميلاد أمة ونهضة روح، وإحياء للنفس من موت الضمير وسواد القلب وضعف الثقة، لتحيي في النفس ضمائر الشعور بقادم أفضل، وسلام أدوم، وتصالح يؤسس في النفس مرافئ الحب ويبني أشرعة العطاء ويعلي من شموخها في مواجهة كل الرياح العاتية الهوجاء والمتغيرات وهي تسير في بحر متلاطم الأمواج، تعصف به رياح التغيير الشديدة فتنقله إلى عوالم الحياة الأخرى، فإما أن يصمد ويتوكل ويستخدم عقله وفكره ويستوعب المعطيات بعقل متفتح وضمير يقظ ليحصد نواتج صبره وتحمله وثباته ومصداقيته، وإما أن يسير مع كل اتجاه، ويتجه مع صوت كل ناعق دون أن يأخذ بنصيب من التأمل في حاله أو إعادة مساره، وليبدأ التغيير من الذات وصقل الممارسة الشخصية ونهضة الفكر وترقية عوالم النفس وممكنات النجاح والتميز، لتتصافى النفوس وتتناغم الأرواح ويعيش الناس حياة الأمن والأمل والسعادة والبهجة.
لتكن أعيادنا نهجا للتغيير، ومنطلقا لصياغة الحياة بثوب جديد، وقراءتها في إطار متجدد، تضمن لمنتجها الفكري والسلوكي الاستدامة والتأثير، ولنواتجها رقي الإنسان واستقراره واستعداده، وما أجمل أن تعيد الأمة في ظلال هذه الأعياد نوافذ الأمل للعالم ليقرأ سماحة الإسلام وعظمته وقيمه وأخلاقه ومبادئه التي تدعو إلى الصفاء والنقاء والإخاء والمحبة والسلام والمودة والرحمة، وما أعظم أن تتجمل أمة الإسلام بلباس التقوى ونهج السلام والتنمية والتطوير والتجديد في مواجهة كل صيحات الخلاف ومكدرات الاختلاف السلبي ومؤصّلات سلوك المذهبية ومروّجات شأن الطائفية التي أسكبت على الأمة ويلات التخلف وأخرت فرص التقدم، وخربت الديار وعصفت بكل الأعراف والمبادئ والأخلاقيات والنهج، حتى أسلمت نفسها للواقع، وبدأ العالم ينظر إلى ممارسات المسلمين وسلوكياتهم مع بعضهم نظرة استخفاف وازدراء لصنيعهم، وما أعظم أن تتجه الأمة وفي ظلال مبادئ رمضان وما حمله من قيم الحياة الصافية والنفس المطمئنة والمشاعر الصادقة والممارسات الراقية والالتزام النابع من شعور النفس بمراقبة الضمير، وما سطرته أيام العيد السعيد من معاني السلام والاحترام والشعور الإيجابي بالآخر المشترك، ورسم البسمة ليكون لها حضورها في وجوههم كما لها وجودها في القلب والفكر والقناعة والإرادة.
ونحن في عُمان نقرأ في مواسم الإسلام وأعياده معاني أكبر لإنتاج الحياة من جديد، فنستلهم منها معاني الحب ونوافذ الأمل، ليعيش أبناء الوطن الواحد في حبهم وتعارفهم وتآلفهم كالجسد الواحد، فنعمل على بناء عاداتنا لتكون أكثر قربا من تشريعات هذا الدين ودعوته للتوازن والتيسير والتسامح والعفو عند المقدرة ومد أيدي الخير مبسوطة وأيدي السلام معطرة برائحة الصدق وطيب الخلق، لترفرف على الإنسانية أعياد السلام، وتصفو مناخات الود، وتتعمق أرضيات الإخاء ومنابر الحب والوئام، فتزهر الأرض خيرا وطمأنينة وسكينة واستقرارا، وهي رسالتنا للإنسانية جمعاء أن يعمها السلام والتعايش والوئام، ورجاؤنا للأمة أن يعيد الله عز وجل عليها هذه المناسبة العظيمة وهي تعيش في وداد، وتسمو في قوة، وتنمو في ازدهار، وتزهر في نهضة، وترقى في تقدم، وتعلو في حكمة، وتجتمع للحق، وتلتقي في تآلف ومحبة.