لا شك أن هناك حدثاً عظيماً من أيام الشهر الفضيل ألا وهو الفتح الأعظم (فتح مكة)، حيث حدث في العام الثامن للهجرة المباركة، وعندما تحلُّ تلك الذكرى العطرة نشمُّ رائحة الفتح الذكية، الفتح الذي حدث دونما قتالٍ، أو سفك قطرة دم واحدة، حيث امتن الله على رسوله الكريم، وعلى المؤمنين بفتح مكةَ، أمِّ القرى وإسلام معظم أهلها، وتكسير الأصنام المعبودة من دون الله، وإسلام كُبَرَاءِ مكةَ، ودخولهم في دين الله أفواجًا، ودانت مكة إلى ربها بعد أن ظلت رَدْحًا من الزمن تمُوج بالوثنية، وفي بيتها الحرام ثلاثمائة وستون صنماً، تشتّتَ الخلقُ في عبادة غير خالقهم، وتعبت الأفئدة، وضاعت العقول في أتون الشرك المضطرب، وعبد غير الله في أطهر بقعة، فكانت النعمة الكبرى، والمنة العظمى بفتح مكة المكرمة، ونزلت آياتُ سورة الفتح، والتي يقول الله تعالى فيها:(إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا، لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا، وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا، هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا، لِّيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا) (الفتح 1 ـ 5)بدأت السورة بأسلوب التوكيد، وأداته (إنَّ) واسمها الضمير (نا) أي نون العظمة التي تعود إلى الله ـ جلَّ جلاله:(إنا)، وتستمر نون العظمة داخلة على الفعل الماضي:(فتحنا)، ثم يأتي المفعول المطلق المؤكد للفعل:(فتحاً)، والمبِّين للنوع:(مبيناً)، وهو أسلوب توكيد يدعو إلى الراحة التامة بحدوث الفتح، والذي فتح هنا هو صاحب القوة المطلقة، والبأس الشديد، وهو الله ـ جلَّ وعلا ـ لكنه هنا سمَّاه (فتحاً) لا (حرباً) لأنه كان حقًّا نورًا، وتم دون إراقة قطرة دم واحدة، حيث أسلمتْ مكة لربها، وخرجوا من وثنيتهم إلى طريق ربِّهم، فكان فتحًا عليهم برضا ربهم عنهم، وعفوه عن مسيئهم، ورضاه عن أولئك الذين ظلوا زمناً طويلاً صادِّين عن سبيل الله، لكنهم أدركوا خطأهم. والتعبير بالجملة الاسمية:(إنا فتحنا ..) يفيد الثبات، وهو في الوقت نفسه مُؤْذِنٌ براحة القلب، وسعادة النفس، حيث أزلية الفتح، واستدامة الخير، والتعبير بالماضي: (فتحنا) كناية عن صفة، وهي رضا الله وعونه، ومعيته، وقيوميته، ومجيء:(فتحاً مبيناً) بالمفعول المطلق المبين للنوع للتعبير عن جلال الفتح، وهو كناية عن كمال النعمة، وتمام المنة، فقد أكده الله مرتين الأولى بكونه:(فتحاً) لا هزلاً، ولا لغواً، والثانية بأنه:(مبين)، و(مبين) اسم فاعل من الفعل الرباعي:(أبان)، أيْ أن الفتح صار كأنَّ له لسانا يُبِين عن نفسه، ويفصح عن طبيعته، ويتكلم عن ماهيته، وفيه استعارة مكنية تبرز جلال الحدث، وتظهر عمق دلالته إلى يوم الدين، وتكشف عن كماله واكتماله.