[author image="https://alwatan.com/v2/v2/wp-content/themes/watan/images/opinion/fawzy.jpg" alt="" class="avatar photo" height="60" width="60"]فوزي رمضان
صحفي مصري[/author]
في ألمانيا عقد ـ بإشراف علماء الاجتماع والتربية والاتصال ـ مؤتمر ضخم خصص لمناقشة توافه الأمور، وكل ما يحمل (الهبل والعبط). حضره آلاف البشر، طرحت فيه موضوعات غاية السذاجة والتفاهة، كانت رائحة الغسيل موضوعا للنقاش.. نوقشت أيضا ألوان الأحذية، وكيفية تربية الصراصير.. طرحت كل الأفكار التافهة والتي لاقت تجاوبا كبيرا، واستقطابا للكثير، بلا ملل أو ضجر انتعش المجتمون. كان هدف العلماء قياس مدى استجابة الجماهير لطرح الموضوعات التافهة والمتخلفة، وخلصت التجربة إلى خضوع الكثير من البشر بشكل عفوي تام للتفاهة.
التفاهة .. أصبحت ثقافة عامة تنحدر بعقولنا نحو مزيد من الانحطاط والانحدار والتسطح.. النخب التافهة الآن تتصدر المشهد والحياة العامة، تسهم في هدم قواعد الذوق العام.. والناس تنحدر نحو الأسفل مع أنهم الأرقى، أصبحوا مغرمين بالجهل مع كونهم ضده، ومع تفشي التفاهة يرى الشاب قدوته في فاشل دراسيا يصبح نجما كرويا يشار له بالبنان.. يرى المثل في صعلوك صار مطربا ترفع له القبعة، ويفرش له السجاد الأحمر.. يرى ألدغ اللسان كيف يصير نجما تلفزيونيا؟ ونتعجب جميعا: كيف لجاهل أن يتسيد المشهد الإعلامي ويصير من ذوات الثروة، بينما شاب أفنى عمره في دراسة وعلم وتفوق واجتهاد، يتكفف العيش ويتسول الستر؟!
كيف تنجح التفاهة ولعبة الاستعباط أن تجعل المبني للمجهول معلوما من قبل الملايين؟! كيف يتفوق توافه البشر على المفكرين ومنتجي الأفكار العملاقة؟! ما الأسباب التي جعلت التافهين يمسكون بمواقع القرار في العالم؟ يطرح الفيلسوف الكندي ألان دونو في كتابه (نظام التفاهة) نفس التساؤل، ويتعجب أيضا كيف لهؤلاء الجهلاء امتلاك سلطة القرار؟! إذًا لا لزوم للكتب المعقدة، ولا تقديم أي فكرة جديدة، ولا تكن فخورا بأنك مثقف.. ستكون عرضة للنقد والتهجم والسخرية، ما عليك إلا أن تكون قابلا للتعليب، لقد تغير الزمن؛ فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة، وتحكموا في القرار.
إننا سائرون رغما عنا نحو مجتمع غارق في التفاهة والرداءة، ويحزن أن تصير النجومية والشهرة والمال من نصيب الأكثر تفاهة وعبطا، ما دفع بالكثير للبحث عن الحضور والظهور في الواقع وفي الرقمي؛ فما يهم عدد (اللايكات)، ويقاس النجاح بعدد المشاهدات والتعليقات التي باتت أكثر تفاهة من التافه نفسه. نحن نعيش زمن الصورة أملا في حصاد الشهرة، والخروج من سجل المجهولين إلى صعود سماء النجومية.. لا يهم فالغاية تبرر الوسيلة، حتى لو كانت العبث بالحياة الخاصة، أو انتهاكا للمحاذير، أو تسفيها للمنجز، أو تشويها للنجاح، أو تطاولا على القامات، أو تقزيما للكبار.
المهم أن يصير نجما في زمن الرداءة، فيما كبار المفكرين وصانعو الحضارة في طي النسيان.. ليس مطلوبا أن تحوز شهادات عليا من أعرق الجامعات، أو تكون صاحب موهبة أو تكون متميزا في مجالك، فالتافهون الذين سيطروا على وسائل التواصل الاجتماعي أصبحوا نماذج عالمية، يجنون وافر الأموال كلما زادت تفاهتهم.. ولا عجب أن يشهد العالم ترويجا لا نظير له للسلبية والسلبيات، وجهودا تبذل لإعاقة الفكر البشري، حتى صار الشأن العام تقنية إرادة لا منظومة قيم.. انقلبت القواعد والمثل إلى معايير من الابتذال والتسطيح، وصارت المصلحة العامة مفهوما مغلوطا لحماية مصالح البعض، وصار السياسي مهرجا يعمل لصالح زمرته.. صارت التفاهة نظاما كاملا، فبات المعلم ملقنا بعد أن كان معلما، وصارت القدوة والنموذج مثالا للمهانة والسخرية.
المهزأة باتت السبيل لمواجهة عالم غياب العقل، وسيولة المعنى، حيث صار البشر قطيعا تتلاشى فيه الفواصل، يمارس عليه نوع من الاستبداد الرقمي، وما يقوم به منتجو التفاهة والتسفيه، هو إنتاج ملهيات للهروب من الواقع عبر بوابات الترفيه والتسطيح والابتذال.. هناك مراهنة دائمة على تسويق الخيال، والترويج لعالم افتراضي لا علاقة له بالعالم المعاش.. إنه فن صناعة الوهم، وتفريغ شحنات الغضب الشعبي، وإظهار البطولة الزائفة.
لم تخلُ ساحة وسائل الإعلام من وظيفة الاستعراض التافه لمعاناة الجماهير، ونقل الواقع بشكل ساذج والإتيان بالغرائب، باتت تنقل الحدث بجرعات أكثر جرأة، أو مبالغة في نشر الفضائح والمصائب.. لا مكان للعقل النقدي أو تنمية التفكير.. بات الهدف تشكيل أمخاخ البشر، لتتناسب مع دنيا التفاهة.. لقد تسلل التافهون إلى كل شيء، حتى مختبرات تعليم الطلاب، حولوا مراكز العلم إلى مصانع لتعليب الفهم وتلقين التعليم، إلى حد الوصول إلى أجيال لا تعرف سوى الطاعة والولاء، لا الحس النقدي والتجديد والابتكار.
إننا نعيش عصر التفاهة، من هشاشة الفكر ومن مناقشات بيزنطية، وحوارات يغلبها الجهل بالأمور.. بات التوافه علماء في الفيزياء، وأطباء في علوم الأمراض، وأساتذة في بحور العلم، ونوابغ في دروس المنطق والفلسفة، فلا عجب إذن أن تنحدر الأجيال إلى الأسفل، ويعرج منحنى الصعود نحو القاع ليفسح المجال للابتذال والتسطيح والعبط .. نعم إنه عصر التفاهة والعبط.