تؤكد انه من العبث تحديد مهمة ما للرواية
دمشق من وحيد تاجا :
اكدت الأديبة والإعلامية الفلسطينية الدكتورة وداد البرغوثي في حوار مع " اشرعة " أن لا حياد في الثقافة ولا في الصحافة. فالحياد أكذوبة يروج لها المنحازون لمواقفهم وأكاذيبهم غير المحايدة. والدكتورة وداد البرغوثي روائية وشاعرة فضلا عن كونها إعلامية وأستاذة في كلية الاعلام في جامعة بير زيت منذ العام 2000 وما تزال على رأس عملها . صدر لها روائيا : حارة البيادر ، وذاكرة لا تخون ، وتل الحكايا ، والوجوه الأخرى. وشعريا: سقوط الظل العالي ، وللفقراء فقط ..

*هل يمكن بداية ان نتحدث عن البدايات والمؤثرات التي لعبت دورا في توجهك نحو الإعلام والأدب.. ؟

** طفلة ولدت في قرية اسمها كوبر، إحدى قرى شمال غرب رام الله عام 1958 لأب محكوم بالسجن لمدة 15 عاما. ولدت بعد اعتقاله بسبعة أشهر، لم تره إلا عندما بلغت الثامنة من عمرها ، أما أمي فامرأة بسيطة تربت في كنف أعمامها في عائلة ممتدة، لأن أباها سافر إلى كولومبيا وهي لم تكمل عامها الأول، حين دخلت المدرسة الابتدائية في القرية كان يحلو لي بعد أن أصبحت قادرة على فك الحرف أن أقرأ القصائد والقصص من كتب عمي الذي كان طالبا في الثانوية. عندما أفرج عن والدي أصبح بين فينة وأخرى يحضر إلى البيت بعض الكتب. كنت أحاول قراءتها وكأني أختلس شيئا ليس لي، ظنا مني أن والدي يغضب من ذلك، لكنه حين اكتشف أنني أقرأ ما يحضره ـ وكان قي غالبه وعلى قلته كتبا أدبيةـ أثنى علي وشجعني، وأصبح كلما أتيحت له فرصة ينظر إلى كتبي ويشجعني للإقبال على التعلم والمطالعة. بالمناسبة أبي لم يكن متعلما. لكن السجن كان بالنسبة له مدرسة تعلم فيها الكثير وكتب فيها الشعر وتعلم بعض اللغات الأجنبية. ثمة حاجز كبير بيني وبينه ، فهو بالنسبة لي كان شخصا غريبا طارئا على بيتنا.لكن اعتقاله الثاني عام 1971 واعتقاله الثالث عام 1974 وبداية تفتحي على الهم الوطني العام بدأ يزيل هذا الإحساس بالغربة،أو يخففه. بدأت أنظم الشعر وأكتب القصص سواء كان حاضرا أو في سجنه. وانكببت على قراءة الأدب الفلسطيني والعربي والأدب الثوري العالمي ثم بدأت بنشر بعض ما أكتب في الصحافة. كان لوالدي ومواقفه الوطنية وتشجيعه وتذوقه العالي للشعر وقدرته الفائقة على التقاط أي كسر في وزن القصيدة بمجرد أن يسمعها كل ذلك كان له أثره الكبير على توجهاتي الأدبية والفكرية، ليس من منطلق " كل فتاة بأبيها معجبة" لكنه رحمه الله كان تقدميا سابقا لعصره. فيكفي أن أقول أنني أول فتاة من قريتي تدخل الجامعة بفضل والدها وأفكاره التي استعصت على الناس التقليديين فقاطعه بعض الذين راهنوا على فشل التجربة. واعتبروا موقفه ضربا من الجنون. أليوم وأنا أعمل في تدريس الصحافة وبعد مرور 35 عاما على دخولي الجامعى أرى بعض طلاب وطالبات الجامعة يعانون من عقلية آبائهم المتعلمين وأفكارهم المتزمتة ويقطنون المدينة.
الغربة في موسكو منذ عام 1978 حتى 1984 والإحساس الدائم بالحنين للوطن، لتراب قريتي وأشجارها وزرعها، ما عانيته وأسرتي ووطني وأنا شخصيا من الاحتلال كل ذلك كان له كبير الأثر. أما غربتي الثانية في روسيا من أجل الدكتوراة فقد أتاحت لي وقتا وخلوة للكتابة فأنجزت روايتيّ الأخيرتين تل الحكايا والوجوه الأخرى.

* تعتمدين كثيرا على السيرة الذاتية في رواياتك ..وهو توجه أخذنا نلحظه بكثرة مؤخرا وسط الروائيين العرب..كيف ترين هذه الظاهرة..؟
** هذا صحيح ، ولا أدري إن كان هذا ملمحا إيجابيا أو سلبيا، أترك ذلك للنقاد، لكن أي كاتب كبيرا كان أم صغيرا في كل مرة ينتج عملا يكتب شيئا من ذاته. إذا كانت ذات الكاتب جزءا من الكل العام فلا أرى في ذلك ضيرا ولا مأخذا، فهو هنا يمزج بين الخاص والعام. أما إذا كان غارقا في الذاتية فهذا ربما سيضيف عزلة إلى عزلته.فقد يتقبله قراؤه مرة لكنهم غير مستعدين لتقبله دائما.لأنه لا يوجد من هو مستعد لتكريس ذوقه على الدوران في فلك كاتب لا يدور إلا حول ذاته.

* تعرضت في روايتك ( تل الحكايا ) بكثير من الدقة الى التهميش والإهمال الذي يتعرض له بعض المناضلين الفلسطينيين.. (أكلوه لحما ورموه عظما). ؟

** نعم هذا صحيح، وليس فقط بعض المناضلين الفلسطينيين بل والعرب. وذكرت في الرواية ذاتها الكاتب الروائي مؤنس الرزاز الذي كتب ما يفهم أنه كتب عن والده منيف الرزاز في رواية أو أكثر.هؤلاء كثيرون ومنتشرون في أرضنا، وما كتبه عبد الرحمن منيف في شرق المتوسط مرة أخرى ، وصنع الله ابراهيم في رواية وردة، ويوسف القعيد في يحدث في مصر الآن وغيرها سوى بعض تعبير عن هذا الإهمال. والتاريخ الذي لم يؤرخ حافل بمثل هذه الحالات.

* الرواية كجنس أدبي لها إشكاليتها الخاصة من حيث اهتمامها الأساسي بأحداث وأبطال لهم أفكارهم ومعتقداتهم، وللكاتب أيضاً أفكاره ومعتقداته. . وبالتالي في روايات السيرة الذاتية، أو السيرة الغيرية، كما في روايتك تل الحكايا.. هل يمكن ان يكون الكاتب محايدا في تسيير أحداث أبطال روايته ؟

** دعني أؤكد على حقيقة أن لا حياد في الثقافة ولا في الصحافة. فالحياد أكذوبة يروج لها المنحازون لمواقفهم وأكاذيبهم غير المحايدة.في روايتي " تل الحكايا" كنت منحازة لمناضل لم يحد عن دربه النضالي. لكن انحرافا ما في زمن ما عند رفاقه أو بعضهم جعلهم يجحفون بحقه وحق سواه. اعتقد أنني انحزت للمظلوم. وحين يكون هناك ظالم ومظلوم فإن الحياد لن يكون حيادا أو عدلا بل سيكون انحيازا للظالم على حساب المظلوم، وبالتالي مشاركة في الظلم، أو سكوت عن الظلم. الانحياز للحقيقة رسالة. والحياد أيضا رسالة مفادها أن أترك المظلوم وحده في مواجهة الظالم. أنا ضد الحياد. ما هو مؤكد في رواية تل الحكايا أن نسبة الحقيقة تصل إلى مئة بالمئة إذا لم نحسب تغيير الأسماء.

* يغلب الطابع الإيديولوجي على مجمل أعمالك.. الأمر الذي يدفعني للسؤال عن مفهومك للالتزام .. وما الذي تريدين أن تقدميه من خلال أعمالك بشكل عام .. وما هو المطلوب من الرواية أساساً.. تشخيص الواقع وطرح الأسئلة .. أم إيجاد الحلول؟

** قد لا أجافي الصواب إن قلت : أن من العبث تحديد مهمة ما للرواية. وكل كاتب لالتزامه بمواقفه نصيب فيما يكتب،وأنا لست استثناءً. فربما تكون مهمة الرواية والمطلوب منها كل ما ذكرته في سؤالك، تشخيص الواقع وطرح الأسئلة، والبحث عن الحلول، وتغيير الواقع وربما ما هو أكثر من ذلك وربما غير ذلك؟ من يحدد؟. قد تكون بعض الرؤى النقدية مجافية للحقيقة حين تحمل الرواية أكثر مما تحتمل. فالرواية رسالة يريدها الكاتب لفئة ما، لمجتمع ما،أو لشخص ما أو سلطة ما أو هو وحده من يختار "المغلف والطابع البريدي" الذي سيوصل بهما الرسالة إلى جمهوره. لكن لا أحد يستطيع أن يطلب منه أن يضع في المغلف الذي اختاره لرسالته طردا كبيراً أكبر مما يتسع المغلف. وهذا دأب بعض النقاد الذين لا يحاكمون العمل كعمل ولكن يحاكمونه بناء على ما يريده الناقد من الكاتب. وبالمناسبة كثير من النقاد يعتبرون عملاً ما لكاتب فتحا أدبيا مبينا، ويرون عملا مشابها وربما أكثر جودة لكاتب آخر أقل حظوة عندهم سقوطا أدبيا. لا عدالة في النقد، وأحيانا هناك شخصنة وهناك ركوب موجة ما.

*رأى بعض النقاد ان اللغة الصحفية التقريرية والمباشرة غلبت على ( تل الحكايا ) .. كما كان أسلوب الحكاية طاغيا فيها..ما قولك..؟

** أجبت على جزء من السؤال في إجابتي عن أسئلة سابقة. ولكن دعني أكشف سرا إن قلت أنني عشت ولم أزل هاجس فقدان الذاكرة في بعض الأحيان، وهذا الهاجس ليس مرضيا وليس تشاؤما ولا تطيرا. فقد كدت أصاب بذلك عام 88 حين ضربني جنود إسرائيليون بخوذهم الحديدية ورشاشاتهم على رأسي فهشموا جمجمتي وحصل نزف في الدماغ وشلل مؤقت لما يقارب الشهرين في النصف الأيسر من الوجه. نجوت من فقدان الذاكرة بأعجوبة كما قال الأطباء في حينها. هذا الهاجس يلاحقني ، لذلك أحاول كلما أتيحت لي فرصة للكتابة أن أفرغ ذاكرتي قبل أن يصيبها التلف. فما أن أتيحت لي هذه الفرصة في خريف عام 2005 وشتاء وربيع 2006 في روسيا حتى قررت في الوقت الممكن خلال كتابتي للأطروحة الدكتوراة أن أكتب روايتين بالتزامن هما "تل الحكايا" و "الوجوه الأخرى" وإستكمال لأطروحة الدكتوراة إضافة إلى مجموعة من المقالات والقصائد وقراءة العديد من الكتب في فترة لم تتجاوز ستة إلى سبعة أشهر. وهذا وقت أدعي أنه قياسي لإنجاز ما أنجزت. ومع ذلك وجدت كثيرين أحبوا هذه الرواية وبعضهم فضلها على الوجوه الأخرى.لم أستطع خلال كتابتها أن أغادر الواقع ولو للحظة. ولذلك كتبتها كما تقتضي الوقائع دون زيادة أو نقصان وبأقل قدر من التدخل .كانت شفافة لدرجة أن كثيرين ممن قرأوها استطاعوا أن يحددوا أن فلانا في الرواية هو فلان الفلاني من القرية، مع اختلاف طفيف في الأسماء لم يمنع الناس من معرفة الأشخاص الحقيقيين لشدة الشبه حتى في الأسماء. أصبت أم أخطأت في ذلك؟ ببساطة أقول لست أدري.هكذا أردتها أن تكون وهكذا كانت.ربما كانت تحتاج لوقت أكبر. لكنني خفت من التأجيل للأسباب سالفة الذكر.

*رواية ( الوجوه الأخرى ) جاءت مختلفة وأكثر حداثية على الصعيد التقني (التداعي والاستحضار)، واستطاعت ان تكشف الجوانب الإنسانية المغيّبة في حمى الانشغال بالراهن الآني، كما استطاعت نقل الوجه الآخر لكل شيءبدقة متناهية ..؟

** الوجوه الأخرى بالنسبة لي رواية مختلفة ورسالة مختلفة وأدوات مختلفة. كان الواقع منها مدعوما بكثير من الخيال،وكانت هناك عمليات تفكيك وتركيب كثيرة في خلق شخصيات الرواية وأحداثها، بمعنى إعادة خلق الواقع بتدخل.ثمة قصة محورية حقيقية تعرفت على صاحبها "عصمت الندام" ذات يوم أثرت في تأثيرا شديدا فأردت أن أضفي لها من اشتقاقات الخيال ما ينقل تأثيرها علي إلى القارئ، ولأنني أردت للرسالة أن تصل بأفضل وجه فقد بذلت فيها ما لم أبذله في تل الحكايا. كنت أكتب صفحات من تل الحكايا، وعندما أتعب أو أمل أجد راحتي في متابعة الكتابة في "الوجوه الأخرى" والعكس صحيح.مسؤولية الكاتب تجاه ما يكتب، وعمن يكتب، وتجاه القارئ وتجاه أبطال الرواية هي التي تخلق الشكل والأداة والتقنية المناسبة لفحوى الرسالة.أعتقد أنني في هذه الرواية استطعت توظيف أشياء كثيرة منعت نفسي من توظيفها في تل الحكايا. غصت عميقا في العوالم الداخلية للناس. وهذا ما لم أستطعه في تل الحكايا، فقد كنت أكتب عن أناس معروفين وأردتهم أن يكونوا معروفين وواضحين ، فقط جردتهم من سلاح محاسبتهم لي وهو الأسماء.

* لفت نظري في هذه الرواية الأسماء مثل ( عصمت الندام ) والذي يشير الى الندم.. الا ترين معي في اختيار مثل هذه الأسماء نوعا من التوجيه والمباشرة التي كنا نلحظها في كتب الأطفال..؟

** حقيقة كانت المسألة مصادفة بحتة. لم يكن استخدام الإسم في البداية بقصد التوجيه ولا المباشرة ولا حتى الإيحاء، لكنني كنت أبحث عن اسم ما لعائلة غير موجودة في فلسطين حتى لا يظن أحد أنني أسأت له ولعائلته. وبعد جهد جهيد عثرت على هذا الاسم ، كتبته ورددته وقررت أن استخدمه ، استعذبته ولما فكرت فيه وجدت أنه مرتبط بشدة الندم. فتمسكت به لا بقصد التوجيه.

* قليلة هي الأعمال استطاعت تناول مسألة العمالة للاحتلال بهذا الأسلوب الروائي الممتع وتسليط الضوء على ما يتعرض له الساقط في براثن العمالة من ضغوط نفسية، ومن إذلال على أيدي جلاديه، وعلى أيدي ضحاياه أيضا..كيف تنظرين الى هذه المسألة وانعكاسها على أبناء العملاء وزوجاتهم وأسرهم ولاسيما وأنت في الداخل الفلسطيني حيث تعايشين مثل هذه الحالات..؟

** نظرتي إلى هذه المسألة هي ما حاولت إظهاره في الرواية. أشعر بإشفاق شديد على ذوي العملاء والمسقطين ، فهي مصيبة لا تعدلها مصيبة، الموت أرحم كثيرا من هذا العار. أصعب إحساس يصيب المرء حين يقف على شفا حفرة من الحب والكراهية تجاه قريب أبنا كان أم أبا أخا كان أم أختا ، هذا الشخص الذي تحبه لأنه أخوك أو أبوك أو قريبك أو حبيبك وتكتشف فجأة أنه لا يمكن لك أن تبقي على حبه، وأن هذا الحب سينقلب إلى كراهية تتمنى موتك أو موته لتسدل ستارا على هذا الفصل من حياتك. هذا ما كنت أراه في أعين هؤلاء الناس. لا يستطيعون التعبير عنه بصوت عال كما أنهم لا يستطيعون الكف عن التفكير باعتباره كابوسا. العمالة وصمة عار ونار لا تمس العميل وحده بل تحرق الكثيرين ممن حوله، إنه جرح في اليد، يمنعك من إغلاق كفك ويمنعك من بسطها، لأنه في الحالتين يؤلمك. والمجتمع قاس، لا يعطي البريء حق الدفاع عن نفسه أو إثبات براءته. ثمة فصيل وطني يساري فهم هذه القضية أكثر من غيره . وحاول إنقاذ أبناء وبنات لعملاء وانتشالهم قبل أن يقعوا في براثن العمالة أو تحت تأثير العملاء.الاحتلال قذر، يحاول كسر من لا يستطيع كسرهم بالعنف، فتأتي أحيانا الطعنة من الخاصرة. كما فعل مع ابن المناضل حسن يوسف الذي أوقعوا ابنه الأكبر في حبائلهم. الفصيل اليساري المذكور تعامل مع الظاهرة بجرأة.فهناك من تزوج فتاة وأبعدها عن بيئتها الموبوءة بالعمالة، وهؤلاء الضحايا أحيانا يبحثون عن متنفس يستطيعون من خلاله أن يثبتوا وطنيتهم وبراءتهم. فمنهم من التحق بفصائل العمل الوطني ونفذوا عمليات جريئة أعلنوا من خلالها وقبلها القطيعة مع ذويهم العملاء وارتفعت قيمتهم في عين المجتمع.

* لفت نظري عدم وجود فواصل رقمية او فصول في هذه الرواية..؟

** لذلك قصة أتمنى ألا تحدث مع أحد. كانت الرواية منجزة، أرسلت "تل الحكايا" لعدد من دور النشر، وأخبرتهم عن "الوجوه الأخرى" وصلني عدد من الردود، كان أهمها بالنسبة لي رد دار الخيال الذين أشادوا بالرواية وتحمسوا لنشرها وطلبوا أن أرسل الثانية فربما ينشرون الروايتين في نفس الوقت. كانت فرحتي لا تقاس. فتحت جهاز الكمبيوتر فوجدت أن الملف " الوجوه الأخرى" قد ضربه فيروس. وكان عبارة عن مئات من الصفحات المليئة بالرموز والأحرف والأرقام وبالألوان، ولا وجود للرواية. فتحت الفلاش ميموري وإذا بالنسخة المحفوظة مثلها، كل محاولاتي لاسترجاع الرواية باءت بالفشل. بكيت حينها واعتبرت ما أصابني مصابا جللا، ظللت أحاول وأحاول بلا جدوى، ضاعت الرواية، ماذا سأفعل؟ ماذا سأقول لدار الخيال؟ وأنا لست من جيل التكنولوجيا . والرواية كتبتها مباشرة على الكمبيوتر. بعد أن بدأت استوعب الصدمة، عدت لفتح الملف وبدأت أتابعه سطرا سطرا، فإذا بي اكتشف بينها، جمله هنا في صفحة وسطرا هناك في صفحة أخرى وكلمة في مكان وسطرين في مكان آخر، بدأت أقرأ وإذا بالرواية كلها مبعثرة بشكل تسلسلي. فوضعت طعام إفطاري بجانبي ووضعت كل ما يلزمني وجلست من الساعة العاشرة صباحا حتى الخامسة من فجر اليوم التالي وأنا أنسخ كل كلمة وكل سطر أجده وألصقه في ملف جديد ( نسخ ولصق، كوبي وبيست)حتى جمعت الرواية كاملة ، فضاع الكثير من الفواصل والنقط وعلامات الترقيم. ولم أتمكن من إعادة القراءة والتأكد والعثور على ما نقص. لم يكن لدي الوقت الكافي لذلك، كنت أستعد للسفر من روسيا إلى فلسطين ولم أرد أن أفوت فرصة إرسال الرواية إلى دار النشر.

* يلاحظ حضور المرأة بقوة في أعمالك، وبعكس العديد من الكتاب،أعطيت المرأة الفلسطينية دورا أساسيا . سواء على الصعيد السياسي اوالثقافي وحتى على الصعيد الإنساني ..؟

** حين يقصر الرجال في إبراز دور المرأة ويجحفون بحقها نغضب منهم وعليهم، فماذا لو قصرنا نحن النساء؟ وهل جائز لنا أن نفعل؟ لقد ولدت لأسرة ليس فيها أبناء ذكور، ولما كان أبي محكوما بالسجن خمسة عشر عاما فلا أمل للأسرة في الإنجاب بعد ذلك. لذا كانت أمنية الكل، القريب منهم والبعيد أن يكون المولود ذكرا، وجئت أنا على عكس ما تمنى الجميع. ظللت أحمل ذنب كوني أنثى في طفولتي وفي صباي.كل شخص في القرية يراني يقول: حرام لو الله اعطى أمك ولداً بدالك؟ وغير ذلك من العبارات التي جعلت السؤال عن سبب التمييز محمولا على كتفي كصليب المسيح. هذا سر ولائي لجنسي وإحساسي بالمسؤولية تجاه المرأة وقضاياها ، أقله أن أعبر عن هذا الموقف كتابة.

* هل قدر الأديب الفلسطيني أن تكون القضية الفلسطينية حاضرة أبداً في نصه رواية كان شعراً أو نثراً أو فناً تشكيلياً. وبالتالي كيف يمكن التعبير عن الذاتي والإنساني بعيداً عن السياسي..؟!

** نعم، فنحن في فلسطين لا نكون ذاتنا إذا ابتعدنا عن السياسة، وإن أردنا الابتعاد عنها تلاحقنا حيثما هربنا.فإذا كان من النادر أن تجد بيتا لم تطله هموم السياسة وممارسات الاحتلال وقمعه وعنفه، كيف يمكن أن نتفرغ لذواتنا. أنا امرأة عادية مواطنة عادية كاتبة عادية، سجن والدي ما مجموعه عشر سنوات طورد وخضع للإقامة الجبرية، وهذا معناه أن كل طفولتي مضت وانقضت وأنا لا أعرف أبي إلا أسيرا أو ملاحقا، مع بداية تفتحي ارتبطت عاطفيا بشاب قريب، وكنا سنسافر للدراسة في الاتحاد السوفييتي سويا، فاعتقل وحكم بالسجن سبع سنوات، أنهيت دراستي الجامعية والماجستير قبل أن يفرج عنه، وبعد ذلك تزوجنا فطورد طيلة ثلاث سنوات، وسجن لمدة سنتين، أنا نفسي سجنت لبضعة أيام في زنزانة بسجن المسكوبية فيما كنت قادمة في إجازة صيفية من الجامعة عام 1982 ثم منعت من السفر لمدة سنة كاملة تخللها الكثير من المضايقات، وجرحت كما أشرت سابقا في عقر بيتي عام 1988 إبني الصغير سجن لمدة أربعين يوما وهو لم يكمل السابعة عشر وعانى من شتى صنوف التعذيب في التحقيق،إبن شقيقتي إصرار البرغوثي يقبع في السجن منذ أكثر من خمسة أعوام وهو جريح بقي في غيبوبة طيلة 56 يوما، وأمه ممنوعة من زيارته ومحكوم بالسجن لمدة 15 عاما، سبعة من أبناء أعمامي وعماتي سجنوا لسنوات أيضا، وبعضهم منع آباؤهم وأمهاتهم من زيارتهم، بدعوى عدم وجود صلة قرابة أو لأسباب أمنية. وأنا مجرد مواطنة عادية ، ما بالك بامرأة يحكم زوجها سبعا وستين مؤبدا وخمسمائة سنة، ما بالك برجل وامرأة يسجن ستة من أبنائهم ويستشهد السابع، ما بالك بامرأة يحكم ابنها بالسجن مدى الحياة وتقطع ساقاه من جراء الإهمال الطبي في السجن، نحن يا أخي في فلسطين وطن سامر العيساوي الأسير الذي دخل شهره الثامن في إضرابه المفتوح عن الطعام حتى كتابة هذه السطور، في وطن عبد الله البرغوثي المحكوم بالسجن خمس مؤبدات و500 سنة، نحن في وطن الشيخ فرحان السعدي الذي أعدمه الإنجليز وهو في الثمانين من عمره وصائم، نحن في وطن ليلى خالد التي اختطفت الطائرات، نحن في وطن نائل وفخري البرغوثي اللذين أمضيا 34 عاما متواصلا في السجون. فماذا تريدنا أن نكتب بعيدا عن السياسة ؟هذه هي حياتنا الإنسانية وهمنا الذاتي، أين هي الذات الخالصة في كل ذلك، أرأيت أنه قدر أحمق الخطى؟ناهيكم عن أن الابتعاد عن السياسة أيضا هي سياسة.

* سؤال اخير. على صعيد الشعر. استوقفني لقب " شاعرة الفقراء " الذي أطلقه احد النقاد عليك..هل السبب هو عنوان ديوانك الأول ام ماذا ..؟

** شرفني من أطلق علي هذا اللقب، ليس لأنه اسم ديواني فحسب، لكن الفقراء وأنا منهم،هم زيت القنديل الذي يضيء دروبي وفَتَّح َعيني على الحياة وتناقضاتها، والصراعات على الأرض، وكل تبعاتها وأسبابها. لقد عشت الفقر طويلا، وعانيت منه، لقد طردت من المدرسة طيلة أسبوع كامل من أجل قرشين، وأول جورب لبسته في طفولتي كان سرقته من غسيل إحدى الأسر التي كانت تنوي السفر إلى الكويت وكنت في الثامنة أو التاسعة من عمري، وأول معطف لبسته في حياتي كان معطفا رماه رجل عجوز فالتقطته المرحومة أمي وغسلته مما تراكم عليه من بقع الزيت والغبار وخاطت منه معطفين صغيرين لي ولشقيقتي الكبرى. ذكريات لا أول ولا آخر لها، انعكس ذلك في شعري وفي روايتي وفي أغنيتي وفي أزجالي وفي بحوثي وفي ميولي وقناعاتي وشخصيتي،وبالتالي عنوان ديواني وأصبح جزءا لا يتجزأ من هويتي.