حديثنا اليوم عن فنان مُلهَم تخصص في عالم الحروفيات فقدم للحركة التشكيلية العُمانية كماً فريداً من الجمال ووهجاً متوشحاً بلغة بصرية مبهجة نهلت من معين التراث العُماني ومكنونات الحرف العربي وروائع الزخرفة الإسلامية، ولم تقف إبداعاته عند هذه الحدود بل انفتحت على أفق الحداثة الرحب المعبر عن إيقاعات العصر بكل معطياته الجمالية ومفرداته النابضة بصيغ جديدة للجملة التشكيلية المفعمة بالحركة والحيوية والحس اللوني المتموج في تنويعات متعددة بين الحار والبارد منساباً في حركة حواره مع الحرف بين العتمة والضوء والقاتم والفاتح. إنه الفنان والخطاط المِعطاء محمد بن عبدالله الفارسي الصائغ الذي ما زال يُتحفنا منذ أزل بأبجدياته اللونية في تكويناتها المذهِلة ومهارته المميزة في تطويع الحرف العربي، ليصل معه إلى تقديم عُنصرٍ شكليٍ موازٍ له في الطبيعة وهذا أمر تميز به الصائغ عن الكثيرين من أقرانه، فهذا الفنان ليس مُجرد خطاط يعمل على تقديم تنويعات على الخطوط والأشكال والزخارف وإنما صاحب رؤية فنية وجمالية يحرص على تقديمها لنا في شكل لوحات تشكيلية مكتملة العناصر والأبعاد وفي حوار بصري خاص يجمع بين المتعة والفائدة وصولاً إلى لذة الاكتشاف من خلال حركة اللون والحرف والتكوين .وقد اخترت له من بين عطائه الفني الكبير هذا العمل (مرسى السفن) الذي ساقه لنا من بيئته ولاية صور التي عاش فيها ردحاً من الزمن فشم هوائها وحلق في سمائها واحتضن ترابها وبات يتغنى بمجدها وتراثها في أعماله بين الفينة والأخرى وأحياناً يجنح إلى محيط وطنه الكبير عُمان، ليستقي من روعة طبيعتها لحناً فنياً آخر رآه فأمتع ناضره وأنعش أحاسيسه فهيجها وقدمها لنا في لوحة حروفية تمتع الأبصار بجمال تركيبها وعناق حركتها الخطية. فمن خلال هذا العمل مرسى السفن نشاهد بأن الصايغ لا يقدم جملة حروفية قابلة للقراءة والتأويل وإنما هي تكوينات جمالية ــ بطلها الحرف العربي ــ لمنظر السفن القابعة على الشاطئ يتناغم الحرف داخلها في حركته الموسيقية مع اللون مداً وجزرا، ليشكل أمامنا هذا المنظر البديع بنسيجه اللوني والحركي وتداخل الحروف ومزجها بشفافيةٍ مطلقة، فالحرف ينقلب وينعكس ويدور وينحني ويتراكب مع حرف آخر مكوناً مع النقاط شكل السفينة في مقدمة العمل أو في عمقه وبدرجات لونية متناغمة استمدها من أصلها الواقعي فتدرجات اللون واشتقاقاته أعطت للوحة هذا الثراء الجميل والتوازن الدقيق والتعدد في الأبعاد فجمع العمل بين روح الأصالة والحداثة في الطرح والأسلوب في آن واحد . ويظهر لنا من خلال هذا الاتجاه الفني أن الحرف لدى الصائغ يمثل عوالم واسعة ومتحركة من الأشكال والمعاني التي ترمز إلى شيء ما في الطبيعة يمكن أن يقربه ويصل بنسيجه التكويني إلى نفس الإحساس للعنصر المماثل له في الواقع، وقيل قديماً " إن أفضل الخط هو ما يبدوا متحركاً رغم أن الحروف ثابتة " وهذا ما نلمسه ونراه في كل الفنون فقد كان الفنان الإيطالي مايكل أنجلو يقول لطلابه "عندما ترسم إنساناً دع ذراعيه توحيان بحركتين، إحداهما في ذهاب إلى الأمام والأخرى في رجوع للخلف" والفنان الصيني يقول لتلاميذه " عندما ترسم غيمة في السماء اعمل طرفاً منها يوحي بابتلاع شيء ما وطرفاً يوحي وكأنه يبصق شيئاً ما " لذا فإن الحروف التي توحي بالثبات هي التي تسمح للحروف المتحركة بالظهور وهذه العلاقة النسبية تتم في مخيلة المشاهد للعمل، ونلمس هنا عن قرب كيف استطاع الصائغ أن يشابك الحروف ويلاقيها في عناق حميمي وحركة تطمح إلى التحليق بالسفن في فضاء البحار الواسعة التي جابها العُمانيون شرقاً وغرباً وحققوا من خلالها مجداً عظيماً كان حديث القاصي والداني، فكل حرف في تكوين العمل له موقعه ومظهره المتحرك أو الثابت بحركات تعبيرية لا يمكن وصفها بالكلمات ويبقى على المشاهد فقط تحسسها وترجمة معانيها إلى طاقة فنية كغذاء فني، يستلهم منها روعة الإبداع التشكيلي عبر نوافذه الجمالية المُشرعة. عبدالكريم الميمني [email protected]